الاختيار الإلهي ـ 03
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
وجه أفضلية كلمة التوحيد
وإنما جعلت هذه الكلمة أفضل الكلمات؛ لأنها قلب الحقيقة، ولأنها عنوان توحيد الله تبارك وتعالى المنبثق عن إقرار المخلوقات بعبوديتها له جل شأنه. فالإنسان إذا ما عرف أن الله تبارك وتعالى هو الإله الواحد الأحد المتفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، والذي ليس له كفء من الموجودات، فإنه حتماً سوف ينصرف إلى عبادة الله سبحانه، ويترك العبوديات المتعددة التي يتوزع عليها الإنسان دائماً؛ فهو يترك العبوديات المألوفة لدى الإنسان كافة كعبودية الصنم وعبودية المال وعبودية السلطة وعبودية الغرائز وما إلى ذلك، ويتوجه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى تحقيق معالم توحيده ومراتب تأليهه، والإقرار بأنه عبد له. وهذه المعرفة هي من أشرف المعارف وأجلها؛ كونها ينبثق عنها توحيد الله تبارك وتعالى الذي هو الغاية من بعثة الأنبياء والرسل إلى أهل الأرض.
وهذه المعرفة تتحقق عندما يترك الإنسان جميع العبوديات المعروفة على وجه الأرض، ويدع كل عبادة سوى عبادته تعالى؛ ذلك أننا نعرف أن الأمم في هذه الأرض هي ملل ونحل، ولأبناء هذه الملل والنحل عبوديات متنوعة بعضها يبتعد ابتعاداً كاملاً عن العبودية المطلقة لله تبارك وتعالى، وبعضها يدور حول هذا الفلك ـ فلك التوحيد ـ دون أن يقترب منه. فإذا ما عرف الإنسان ربّه تعالى حق معرفته، فإن هذه العبوديات كافة سوف تتلاشى وتضمحلّ؛ لأن كل من تدّعى له الألوهية غير الله تبارك وتعالى هو مخلوق له جل شأنه.
إذن فالله هو الواحد الأحد الذي لا معبود معه، وهو الباقي الذي لا يموت ولا يفنى أما العبوديات الأخرى فالمعبود فيها فانٍ؛ فمن عبد الجن فالجن يموتون، ومن عبد الإنس فالإنس كذلك يموتون، ومن عبد الشجر فالشجر يذوي ويذبل ثم يموت، ومن عبد الكواكب فلابدّ أن يعرف أن هذه الكواكب سوف تنتثر وتندثر؛ وهو ما يقود إلى حقيقة مطلقة هي أن جميع المعبودات سوف تتلاشى وتضمحل ولا يبقى منها شيء، والباقي هو المعبود الحقيقي، وهو وجهه تعالى وحده، و﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾([1]) كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام الذي لا إله سواه، والذي لا ينازعه شريك من خلقه في اُلوهيته وخلقه، ولا يشابهه أحد في هذا، ولا يشاركه مخلوق في ملكه. ومن هنا فإننا نجد أن كلمة التوحيد هي كلمة ذات صفات منها:
الأولى: أنها توحد مشاعر الناس.
الثانية: أنها تضمهم تحت لواء واحد هو لواء التوحيد لرب الأرباب وملك الملوك الإله المطلق وهو الله جل شأنه.
الثالثة: أنها تشعرهم بمعنى العدل المرتكز إلى أن الله جل شأنه هو رب العالمين، وإذا كان سبحانه ربّاً للعالمين على حد سواء، فإنه هذا يعني أنه جل شأنه سوف لن يظلم أحداً، أو يحابي أحداً على أحد، أو يفضل أحداً منهم دون أحد. فالكل عنده سواسية لا يخرجهم من عذابه إلى رحمته إلّا إيمانهم، ولا من رحمته إلى عذابه إلّا كفرهم وطغيانهم. ولشرف هذه الكلمة التي عبر عنها الرسول الأكرم| كما أسلفنا بقوله: «ما قلت ولا قال القائلون قبلي مثل لا إله إلا الله»، فإننا نجد أن الله سبحانه وتعالى قد كرم قائلها والمعتقد بها بألّا يخلد بها في النار وإن عمل المعاصي، بل إنه يدخل النار فترة وجيزة ثم يمن الله تبارك وتعالى عليه بفضل هذه الكلمة بالعتق من النار وعذابها، وحرها وجحيمها.
وهذا ما تعالجه بعض الروايات الواردة في مجال التأكيد على أن من شهد أن لا إله إلا الله لا يخلد في النار، بل إنه يعذب كما ذكرنا فترة معينة على جرائمه وجرائره وذنوبه ومعاصيه التي ارتكبها في الدنيا ـ أي أنه يأخذ جزاءه عليها ـ ثم بعد ذلك يعتق من النار، ويعفى من العذاب وهو ما يؤكده قول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً﴾([2])، الأمر الذي يعني أنه جل شأنه سوف يغفر كل ذنب دون الشرك إن اقتضت المصلحة ذلك الغفران.
وقد حدد سبحانه الغفران وقيّده بمشيئته تعالى؛ لأن الإنسان من الممكن أن لا يشرك بالله تبارك وتعالى لكنه يفعل أكبر الكبائر كعقوق الوالدين وقتل النفس التي حرم الله لإيمانها وما إلى ذلك فهذا من الممكن أن يكون خارج إطار العفو والعتق من النار، وهو متعلق المشيئة الواردة في الآية الكريمة السابقة وهو قوله تبارك وتعالى ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾.
ومن الروايات التي جاءت في مضمار النص على أن الموحدين لا يخلدون في نار جهنم ما يرويه ابن عباس قال: قال رسول الله|: «والذي بعثني بالحق بشيراً، لا يعذب الله بالنار موحداً أبداً، وإن أهل التوحيد ليشفعون فيشفعون».
ثم قال|: «إنه إذا كان يوم القيامة أمر الله تبارك وتعالى بقوم ساءت أعمالهم في دار الدنيا إلى النار، فيقولون: يا ربنا، كيف تدخلنا النار وقد كنا نوحدك في دار الدنيا؟ وكيف تحرق بالنار ألسنتنا وقد نطقت بتوحيدك في دار الدنيا؟ وكيف تحرق قلوبنا وقد عقدت على أن لا إله إلّا أنت؟ أم كيف تحرق وجوهنا وقد عفرناها لك في التراب؟ أم كيف تحرق أيدينا وقد رفعناها بالدعاء إليك؟ فيقول الله جلّ جلاله: عبادي، ساءت أعمالكم في دار الدنيا فجزاؤكم نار جهنم. فيقولون: يا ربنا، عفوك أعظم، أم خطيئتنا؟ فيقول عزّ وجلّ: بل عفوي. فيقولون: رحمتك أوسع، أم ذنوبنا؟ فيقول عزّ وجلّ. بل رحمتي. فيقولون: إقرارنا بتوحيدك أعظم، أم ذنوبنا؟ فيقول عزّ وجلّ: بل إقراركم بتوحيدي أعظم. فيقولون: يا ربنا، فليسعنا عفوك ورحمتك التي وسعت كل شيء. فيقول الله جل جلاله: ملائكتي، وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أحبّ إلي من المقرّين بتوحيدي، وأن لا إله غيري، وحق علي ألّا اُصْلي بالنار أهل توحيدي، أدخلوا عبادي الجنة»([3]).
إذن لهذا الذي ذكرناه ولغيره كانت هذه الكلمة أفضل كلمة يمكن أن تصدر على لسان الإنسان.
يتبع…
__________________
([3]) الأمالي (الصدوق): 372 / 469. التوحيد: 29 / 31. بحار الأنوار 3: 1 / 1.