الدعاء

img

 

 قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ).

يُعتبر الدعاء أحد وسائل الارتباط بين العباد والمعبود سبحانه وتعالى، وقد خاطب القرآن الكريم الرسول الأكرم (ص) بالآية السابقة؛ ليلفت أنظارنا إلى ذاته المقدسة سبع مرات، وأشار إلى عباده سبعاً، مجسداً بذلك غاية لطفه وقربهِ وارتباطه بعباده.

فقرب الله سبحانه وتعالى منا كبشر يفوق التصور، ويتضح ذلك من الآية المباركة: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ).

فلسفة الدعاء:

للدعاء مضامين عديدة، وآثار تربوية ونفسية ودينية كبيرة تنعكس على نفس الإنسان.

ولا يخلو الكون من وجود الجاهلون بحقيقة الدعاء وما له من آثار فأطلقوا أنواعاً من التشكيك بشأنه. فمنهم من قال:

  1. الدعاء عامل مخدّر؛ لأنه يصرف الناس عن الفعّالية والنشاط وعن تطوير الحياة، ويدفعهم بدلاً من ذلك إلى التوسل بعوامل غيبية.
  2. إن الدعاء تدخل في شؤون الله، والله يفعل ما يريد، وفعله منسجم مع مصالحنا، فما الداعي إلى الطلب منه والتضرع إليه؟
  3. إن الدعاء يتعارض مع حالة الإنسان الراضي بقضاء الله المستسلم لإرادته سبحانه.

هؤلاء كما ذكرنا يطلقون هذا التشكيك لجهلهم بالآثار

التربوية والنفسية والاجتماعية للدعاء، فالإنسان بحاجة إلى الملجأ الذي يلوذ بهِ في الشدائد، والدعاء يضيء نور الأمل في الإنسان.

فمن يبتعد عن الدعاء يواجه صدمات عنيفة نفسية واجتماعية. وقد عبر العلماء العرفانيين ابتعاد الأمة عن الدعاء بأنه يعني سقوط تلك الأمة! المجتمع الذي قمع في نفسه روح الحاجة إلى الدعاء سوف لا يبقى مصوناً عادة من الفساد والزوال.

فالإجابة على الإشكال الأول:

أن من يصف الدعاء بأنه تخديري لم يفهموا معنى الدعاء؛ لأن الدعاء لا يعني ترك العلل والوسائل الطبيعية واللجوء بدلها إلى الدعاء!

بل المقصود أن نبذل نهاية جهدنا للإستفادة من كل الموجودة، بعد ذلك إن انسدت أمامنا الطرق، وأعيتنا الوسيلة، نلجأ إلى الدعاء، وبهذا اللجوء إلى الله يحيي في أنفسنا روح الأمل والحركة، ونستمد من عون المبدأ الكبير سبحانه.

 فالدعاء إذن لا يحل محل العوامل الطبيعية.

أدعية لا تستجاب:

لو جعل الإنسان الدعاء بديلاً عن العمل والجهد فسوف لا يجاب إلى مطلبه حتماً. لذلك نقرأ في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (ع) أنه قال: (أربعة لا تستجاب لهم دعوة: رجلٌ جالس في بيته يقول: اللّهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب؟. ورجلٌ كانت له امرأة فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك؟ ورجل كان له مال فأفسده، فيقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالإقتصاد؟ ألم آمرك بالإصلاح؟ ورجلٌ كان له مال فأدانه بغير بيّنه، فيقال له: ألم آمرك بالشهادة؟)

العوامل التي يُمنع فيها استجابة الدعاء:

  1. فمن الواضح أن الموارد التي يُمنع فيها استجابة الدعاء هو عدم بذل الجهد وعدم السعي وراء قضاء حاجته.
  2. أن يخطئ الإنسان في تشخيص مصالحه ومفاسده، إذ يصر أحياناً على موضوع معين ويطلبه من الخالق جلَّ وعلا في حين أنه ليس من مصلحته، ولكنه بعقله القاصر لم يفهم ذلك.

الإجابة عن الإشكال الثاني:

الدعاء إضافةً إلى قدرته في بث الطمأنينة في النفس، يؤدي إلى نوع من النشاط الدماغي في الإنسان، وإلى نوع من الانشراح والانبساط الباطني وأحياناً إلى تصعيد روح البطولة والشجاعة فيه. الدعاء يتجلى بخصائص مشخصة فريدة… صفاء النظرة، وقوة الشخصية، والانشراح والسرور، والثقة بالنفس، والاستعداد للهداية، واستقبال الحوادث بصدر رحب، كل هذه مظاهر لكنز عظيم دفين في نفوسنا. وانطلاق من هذه القوة يستطيع حتى الأفراد المتخلفون أن يستثمروا طاقاتهم العقلية والأخلاقية بشكلً أفضل وأكثر.

ولكن الأفراد الذين يفهمون الدعاء حق فهمه قليلون جداً مع الأسف في عالمنا.

ومما تقدم نفهم الرد على من يقول أن الدعاء يخالف روح الرضا والتسليم، لأنه نوع من كسب القابلية على تحصيل سهم أكبر من فيض الله اللامتناهي.

فالإنسان ينال بالدعاء لياقة أكبر للحصول على فيض الباري تعالى، والسعي للتكامل وكسب مزيد من اللياقة هو عين التسليم أمام قوانين الخليقة. كما أنه نوع من العبادة والخضوع والطاعة، وبالدعاء يزداد الإنسان إرتباطاً بالله تعالى، وكما أن لكل العبادات أثر تربوي كذلك الدعاء له مثل هذا الأثر.

الإجابة على الإشكال الثالث:

وهو القائلون بأن الدعاء تدخل في شؤون وأوامر اللهوأن اله يفعل ما يشاء، فهم أناس لا يفهمون أن المواهب الإلهية تغدق على الإنسان حسب استعداده وكفاءته ولياقته، وكلما ازداد استعداده ازداد ما يناله من المواهب.

لذلك يقول الإمام الصادق(ع): (إنَّ عند الله عزَّ وجلَّ مَنزِلةً لا تُنال إلا بمسألة). ويقول أحد العلماء: (حينما ندعو فإننا نربط أنفسنا بقوة لا متناهية تربط جميع الكائنات مع بعضها).

وكذلك فإن أحدث العلوم الإنسانية وهو علم النفس، يقول كما قال الأنبياء، حيث أدركوا بأن الصلاة والدعاء والتمسك القوي بالدين يزيل عوامل القلق والاضطراب والخوف والهيجان الباعثة على أكثر أمراضنا).

 المفهوم الحقيقي للدعاء:

عرفنا بأن الدعاء المستجاب هو ما صدر لدى الاضطرار وبعد

بذل كل الجهود والطاقات:

 (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ).

فمفهوم الدعاء: طلب تهيئة الأسباب والعوامل الخارجية عن دائرة قدرة الإنسان، وهذا الطلب يتجه به الإنسان إلى من قدرته لا متناهية ومن يهون عليه كل أمر. وطبعاً هذا الطلب يجب أن لا يكون صادر من لسان الإنسان فقط، بل من كل وجوده، توجهه جوارحه أعضائه. فبذلك يرتبط القلب والروح بالله سبحانه وتعالى أثناء الدعاء إرتباطاً وثيقاً ويكسبانه القدرة على الإتصال المعنوي بالله تعالى.

وبعبارة أخرى: الدعاء نوع من التوعية وإيقاظ القلب والعقل، وارتباط داخلي بمبدأ كل لطفٍ وإحسان. لذلك قال الإمام علي (ع): (لا يقبل الله عز جل دُعاء قلبٍ لاهٍ)، وقال الصادق(ع): (إن الله عَزَّ وجل لا يستجيب دُعاءً بظهر قلبٍ ساهٍ).

فالسالك إلى الله والمهاجر من ظلمات النفس يجب أن يتأطر بإطار الدعاء المستمر لله سبحانه، فبالدعاء يسافر الإنسان سفراً روحياً ويسلك سلوكاً عرفانياً، حتى يلتقي بالنورانية ويحتجب عن الظلمانية، ففي الرواية: (إنَّ لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة) أي أنوار الوجود وظلمات التعلقات القلبية، وقد يعبّر عن سبعين ألف حجاب من نور وظلمة، بحجب سبعة بصورة مضغوطة كما ورد عن الأئمة الأطهار عليهم السلام في التكبيرات الإفتتاحية السبعة للصلاة والتي تخرق كل تكبيرة حجاباً، وكذلك في السجود على التربةلحسينية المطهرة، خرق للحجب السبع.

شروط استجابة الدعاء:

كثيرة ودلت عليها الروايات والآيات كثيراً وفي مواضع عدة، وخير ما ألفت إليه الانتباه هو رسالة الحقوق للإمام

زين العابدين… فهي تحمل بين جنباتها الكثير الكثير، من حق الله وحق النفس وحقوق الوالدين و… و… وأداء هذه الحقوق إنما هي سبيل لاستجابة الدعاء ولتطهير النفس ولإزالة الحجب الظلمانية عن طريق الإنسان.

فتطير القلب من الذنوب والتوبة إلى الله والإقتداء بحياة قادة البشرية الإلهيين هو من أهم الأسباب التي يستجاب بها الدعاء، عن الصادق (ع): (إياكم أن يسأل أحدكم رَبَّهُ شيئاً من حوائج الدُنيا والآخرة حتى يبدأ بالثناء على الله والمِدحَةِ له، والصلاة على النبي وآله والإعتراف بالذنب، ثم المسألة).

وكذلك الإلتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه من الجهاد الذي لا ينفك عن الدعاء، فمن تركهم لا يستجيب الله له، وقد أوضح الرسول (ص): (لتأمُرُنَّ بالمعروف ولَتَنهُنَّ عن المنكر، أو ليُسلّطنَّ الله شِراركم على خياركم فلا يستجاب لهم). فترك هذه الفريضة الإلهية (فريضة المراقبة الإجتماعية) يؤدي إلى خلو الساحة الإجتماعية من الصالحين، وتركها للمفسدين، وعند ذلك لا أثر للدعاء؛ لأن هذا الوضع الفاسد نتيجة حتمية لأعمال الإنسان نفسه.

أما موانع استجابة الدعاء كثيرة كذلك وهي عكس الأعمال التي تؤدي استجابة الدعاء، منها كثرة الذنوب، سوء النية، النفاق، تأخير الصلاة عن وقتها، اللسان البذيء، أكل الحرام، ترك الصدقة والإنفاق… .

 ما معنى الآيتين؟

ورد عن الصادق (ع) حينما سأله أحدهم، قال: قلت: آيتان في كتاب الله عز وجل أطلبهما فلا أجدهما.

قال (ع): وما هما؟ قلت: قول الله عز وجل:

(ادعوني استجب لكم)، فندعوه ولا نرى إجابة!

قال (ع): أفترى الله عز وجل أخلف وعده؟

قلت: لا. قال(ع): فممّ ذلك؟

قال: لا أدري.

قال (ع): (لكني أخبرك، من أطاع الله عزَّ وجل فيما أمره من دعائه من جهة الدعاء أجابه).

قلت: وما جهة الدعاء؟

قال(ع): (تبدأ فتحمد الله وتذكر نعمه عندك ثمَّ تشكره ثمّ تصلّي على النبي (ص)، ثم تذكر ذنوبك فتقرّ بها، ثم تستعيذ منها فهذا جهة الدعاء).

وروي أن حبراً من أحبار بني إسرائيل… عَبَدَ الله حتى صار مثل الخلال، أي ضَعُف على قدر ما عَبَدَ الله، فأوحى الباري إلى نبي ذلك الزمان أن اذهب لعبدي وقل له إني لن أقبل ذلك حتى تدخل من الباب الذي أمرتك أن تدخل منه، أي أريد أن تعبُدني كما أريد أنا وليس كما تريد أنت.

ومن أهم الأشياء التي تؤدي إلى تقبل الأعمال واستجابة الدعاء هو محبة أهل البيت(ع) والتصديق بكل ما أوتوا فهم أصحاب الشأن الرفيع والمقام الكبير عند الله فهم (باب الله الذي منه يؤتى) كما ورد في دعاء الندبة، وفي نفس الوقت هم ابتلاء للإنسان الذي لا يؤمن بهم وينكر مناقبهم وفضائلهـــم. فهم (الباب المبتلي به الناس) كمــا جــاء فيالزيارة الجامعة، وإن كل عبد يدخل محضر الله عز وجل، إذا لم يجد الباري في قلبه محمداً وعلياً وفاطمة والحسن والحسين وزينب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فإنهسيخرج من محضره لقوله عز وجل: (قال فاخرج منها فإنك رجيم، وإنَّ عليك لعنتي إلى يوم الدين)، فالخروج هنا ليس موجه لإبليس فقط، ولا إنما هو موجه لكل من يعصي أمر الله، ولكل من ينكر مقامات وفضائل أهل البيت(ع) الذي لا يقاس بهم أحد. فهم عليهم السلام مختلفون عنا في كل شيء فهم أهل العصمة والطهارة الذين عبدوا الله عز وجل حق عبادته، فاصطفاهم الله عز وجل له وطهرهم من كل دنس، ورفع قدرهم فوق قدر كل عبد، عن الإمام الصادق(ع): (إن قلوبنا غير قلوب الناس، إنا مصطفون مصفون، نرى ما لا يرى الناس، ونسمع ما لا يسمعون، وإن الملائكة تتنزل علينا في رحالنا… وما من أرض من ستة أرضين إلى السابعة إلا ونحن نؤتى بخبرهم). فهم يعلمون ما كان وما يكون وما سيكون إلى يوم القيامة، فهنا محبة أهل البيت ومحبة محبيهم واجبة علينا، فمعرفتهم عليهم السلام هو نور يقذف في القلوب، ولا ينال هذا الشرف العظيم إلا من انتجبه الله عز وجل،هؤلاء هم أهل البيت الذين وجدناهم في قلوبنا…

(من زار الحسين عارفاً بحقه وجبت له على الله الجنة)، فمن دعا وناجى عند قبر الحسين وتحت قبته استجيب دعاه، وكذا يستجاب الدعاء لزائر زوار الحسين(ع) وتقضى حاجته، لمعرفته بالشرف الذي يناله زائر الحسين(ع).

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين

 

الكاتب زينب آل مرهون

زينب آل مرهون

مواضيع متعلقة