الاختيار الإلهي ـ 04
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
الثالث: خيرته تعالى من الأفعال
والمراد بالأمر هنا أن هناك أفعالاً يعتبرها الله تبارك وتعالى أفضل الأفعال التي يمكن أن يأتي بها بنو البشر؛ ولذا فإنه جل شأنه يختارها ويفضلها على الأفعال الأخرى التي يقوم بها بنو الإنسان وإن كانت أفعالاً حسنة أو محبّبة إليه؛ إذ إن هذه الأفعال موضع الخيرة هي أفعال تختلف عن تلك الأفعال بما لها من خصوصيات وميزات مدحتها آية المقام الكريمة هذا المقام وهذا الاختيار منه جل شأنه. تذكر بعض الروايات عن معاوية بن وهب أنه قال: سألت أبا عبد الله× عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم، وأحبّ ذلك إلى الله عز وجل: ما هو؟ فقال×: «ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، ألا ترى أن العبد الصالح عيسى بن مريم× قال: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً﴾([1])؟»([2]).
وقال×: «واعلم أن أفضل الفرائض بعد معرفة الله عز وجل الصلوات الخمس، وأولها صلاة الظهر. وأول ما يحاسب العبد عليه الصلاة، فإن صحت له الصلاة صح له ما سواها، وإن ردّت ردّ ما سواها»([3]).
ذلك أن الصلاة عمود الدين وركنه واُسّه، وعماده ورأسه؛ فعن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر× يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد الصلاة؛ فإن قبلت قبل ما سواها، إن الصلاة إذا ارتفعت في أول وقتها رجعت إلى صاحبها وهي بيضاء مشرقة تقول: حفظتني حفظك الله، وإذا ارتفعت في غير وقتها بغير حدودها رجعت إلى صاحبها وهي سوداء مظلمة تقول: ضيعتني ضيعك الله»([4]).
وأنها نور للإنسان المؤمن؛ فقد قال النبي الأكرم|: «الصلاة نور المؤمن»([5]).
وقال|: «الصلاة نور من الله»([6]).
وأنها صلة بين الله وعبده، سئل الإمام×: جعلت فداك، ما معنى الصلاة في الحقيقة؟ قال: «صلة الله للعبد بالرحمة، وطلب الوصال إلى الله من العبد إذا كان يدخل بالنية، ويكبر بالتعظيم والإجلال، ويقرأ بالترتيل، ويركع بالخشوع، ويرفع بالتواضع، ويسجد بالذل والخضوع، ويتشهد بالإخلاص مع الأمل، ويسلم بالرحمة والرغبة، وينصرف بالخوف والرجاء، فإذا فعل ذلك أدّاها بالحقيقة»([7]).
ولهذا فإننا نجد أن القرآن الكريم يؤكد على هذه العبادة الإلهية التي لم تخلُ ديانة قط منها([8])، ومن ذلك ما ذكره جل شأنه عن عزيزه وحبيبه وروحه عيسى× الذي عبر عنه القرآن بقوله: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً﴾، الأمر الذي يعني أن هذه العبادة لها أهميتها في الديانات السماوية كافة حتى إن النبي عيسى× أول ما نطق نطق بذكر الصلاة، وأخبر أن الله سبحانه وتعالى قد أوصاه بها، وأمره بالالتزام بها وإتيانها في مواعيدها. ومن هنا كانت الصلاة أنيس المستوحشين في ظلم الجاهلية والشرك، فهي أنيس كل مصلٍّ ينقطع عن الدنيا جميعها ويتصل بالله تبارك وتعالى، بل إنها أنيسه في وحشته حتى إذا ما وضع في قبره، فهي التي تشق ظلام القبر له بنورها، فتنير له تلك الملحودة الصغيرة الضيقة التي تتسع لصاحبها ببركة كلمة التوحيد، وبركة الصلاة.
الصلاة إذا أنيس الإنسان في لحظات الظلام أو في لحظات الوحشة في القبر؛ لأن الروح عندما تفارق أحبائها وأصحابها ومن كانت تأنس إليهم في دار الدنيا، فإنها إنما تفارق لذائذها؛ وهو ما يؤدي بها إلى الشعور بالوحشة. فالأنيس الوحيد الذي يطرد عن الروح الوحشة هو الصلاة، فهي تدخل السرور إلى روح العبد وتؤانسه، ولذا فقد ورد عن الإمام أبي عبد الله× قوله: «إذا دخل المؤمن في قبره، كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبر مظلّل عليه، ويتنحى الصبر ناحية، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبر: دونكما صاحبكما، فإن عجزتما عنه فأنا دونه»([9]).
ونحن نعلم أن الصلاة كما ورد في الحديث الشريف: «إن قبلت قبل ما سواها»، فهي إذن عنوان المؤمن وهويته، وسلاحه الذي يواجه به شياطين الجن والإنس، وجُنته التي تقيه من حر نار جهنم إن أحسنها وصانها وقدسها وأعطاها ما تستحق من الاهتمام والتقدير والالتزام بعيدا عن الاستخفاف بها أو عن عدم الاهتمام بها وبمقدماتها وأفعالها. فإذا ما كانت كذلك كانت راحة ورَوحاً للمؤمن يوم القيامة إذ يقبل بها فرحاً مستبشراً على الله تبارك وتعالى وعلى رسوله الكريم|.
يتبع…
___________________
([2]) الكافي 3: 264، باب فضل الصلاة، ح1. من لا يحضره الفقيه 1: 210، باب فضل الصلاة، ح634. تهذيب الأحكام 2: 236، ب12، ح932.
([3]) الفقه المنسوب للإمام الرضا×: 100.
([4]) الأصول الستة عشر: 110. الكافي 3: 268، باب من حافظ على صلاته أو ضيعها، ح4. من لا يحضره الفقيه 1: 208 ـ 209، باب فضل الصلاة، ح626 ـ 627. تهذيب الأحكام 2: 239، ب12، ح946.
([5]) مستدرك وسائل الشيعة 3: 91 ـ 92 / 3098. جامع أحاديث الشيعة 4: 14 / 51. السنن الكبرى (البيهقي) 1: 42. وفيه: «الصلاة نور». مسند أبي يعلى 6: 330 / 3655. مسند الشهاب 1: 117 / 144. المعجم الكبير 19: 141. وفيه: «الصلاة نور».
([6]) مستدرك وسائل الشيعة 3: 91 ـ 92 / 3098.
([7]) مستدرك وسائل الشيعة 4: 98 / 4223. بحار الأنوار 81: 246 / 37. جامع أحاديث الشيعة 5: 33 / 2295. وقد وردت أحاديث كثيرة في الحثّ على الصلاة والتأكيد عليها، منها أن رسول الله| قال: «الصلاة عمود الدين، مثلها كمثل عمود الفسطاط إذا ثبت العمود تثبت الأوتاد والأطناب، وإذا مال العمود وانكسر لم يثبت وتد ولا طنب». المحاسن 1: 44 / 60. وقال: «وأوصيكم… بالصلاة التي هي عمود الدين، وقوام الإسلام؛ فلا تغفلوا عنها». دعائم الإسلام 2: 350. وعنه| أنه قال: «الصلاة عماد الدين». وقال: «الصلاة عمود الدين». وقال: «الصلاة عماد الإيمان». الجامع الصغير 2: 120 / 5185 ـ 5187.
وقال أمير المؤمنين×: قال رسول الله|: «إن عمود الدين الصلاة، وهي أول ما يُنظر فيه من عمل ابن آدم؛ فإن صحّت نظر في عمله، وإن لم تصحّ لم ينظر في بقيّة عمله». تهذيب الأحكام 2: 237، ب12، ح936. وعنه× أنه قال: «اُوصيكم بالصلاة التي هي عمود الدين وقوام الإسلام، فلا تغفلوا عنها». دعائم الإسلام 1: 133. وعنه× أيضاً أنه قال: «الصلاة عمود الدين، وهي أول ما ينظر الله فيه من عمل ابن آدم، فإن صحّت نظر في باقي عمله، وإن لم تصحّ لم ينظر له في عمل. ولا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة». دعائم الإسلام 1: 133.
([8]) قال عزَّ من قائل في كتابه الكريم: ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ النساء: 103، وقال عزَّ من قائل: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ إبراهيم: 37، وقوله جلّ شأنه: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ… وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ مريم: 54 ـ 55، وقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا… فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ﴾ مريم: 58 ـ 59، وقوله سبحانه: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى… فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ طه: 11 ـ 14، وقوله جلّ وعلا: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ… وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ﴾ الأنبياء: 72 ـ 73.
([9]) الكافي 2: 90، باب الصبر، ح8، 3: 240 / 13. ثواب الأعمال: 170. جامع السعادات 3: 234. وسائل الشيعة 3: 255، أبواب الدفن وما يناسبه، ب76، ح3562. المصنف (الصنعاني) 3: 567 / 6703. صحيح ابن حبان 7: 380. إثبات عذاب القبر (البيهقي): 60 ـ 61، 95.