الاختيار الإلهي ـ 01
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾([1]).
مباحث الآية الكريمة
تتضمن هذه الآية الكريمة جانباً هاماً من جوانب العقيدة ينطوي على إجابات على كثير من التساؤلات التي يمكن أن تثار في المقام ممّا يدور في مخيّلات وأوهام البعض منا. وهذه التساؤلات نابعة من كون الإنسان مجبولاً على حب الاستطلاع، ومعرفة كل شيء يدور حوله في نطاق الحدث؛ سواء كان على مستوى السبب أو المقدّمات، أو على مستوى النتيجة. وهذا ما سوف نتناوله بشيء من التفصيل وفق ما يقتضيه المقام إن شاء الله تعالى من خلال المباحث التالية:
المبحث الأول: سر اختياره تعالى بعض مخلوقاته دون بعض
إننا نعرف أن الله سبحانه وتعالى له اختيارات عدة لا تدركها مخلوقاته، وهذه الاختيارات تارة تكون على مستوى الأفعال، وتارة تكون على مستوى الأشخاص، وثالثة تكون على مستوى الأمكنة ورابعة تكون على مستوى الأزمنة، فضلاً عن غير هذا مما سوف نتناوله لاحقاً بالتفصيل إن شاء الله تعالى. وبيان هذه الجوانب والاختيارات التي تعني أن هناك أشياء قد اختارها الله سبحانه وتعالى دون أن تكون لنا أي إرادة في تحديد هذا الاختيار، أو مدخلية فيه سوف نجمله من خلال البيان التالي عبر الأبحاث الجائية إن شاء الله تبارك وتعالى:
البحث الأول: موارد الاختيار الإلهي
إن الاختيار الإلهي لجملة من مخلوقاته لم يكن أمراً عشوائياً أو انتمائياً، بل إنه أمر انتقائي استثنائي قائم على ملاحظة جملة من العوامل والخصائص والمزايا ذات المدخلية الكبيرة في تحديد معالم ذينك الاختيار والانتقاء. وهذا ما سوف نلاحظه إن شاء الله تعالى من خلال طرح النماذج الحية التالية، والمناقشة فيها:
الأول: خيرته تعالى من البشر
أما خيرته سبحانه وتعالى من البشر، فنبيه ورسوله الكريم محمد| وأهل بيته^ المطهرون من الدنس بنص الكتاب([2]). إننا نعرف أنه جل شأنه قد اختار أشخاصاً معينين ليكونوا سفراءه في الأرض، فيبلغوا دعوته، وينشروا رسالته، ويدعوا الناس إلى دينه. وهؤلاء السفراء هم الرسل والأنبياء (على نبينا وآله وعليهم أفضل الصلاة والسلام)، الذين جرت عادته جل شأنه على أن يجعل منهم سفراء بينه وبين خلقه؛ ليكونوا حجة عليهم أمامه. وهذا الاختيار كما نعرف ليس اختياراً عشوائياً، بل إنه اختيار دقيق وموثق ونابع من قواعد وقوانين ارتأتها الحكمة الإلهية أن تكون علة تامة وكافية لتحقيق هذا الاختيار.
محمد| سيد البشر
ومن جملة هذه الاختيارات المتعلقة بالأشخاص ما نجده من إجماع عند المسلمين كافة حول أن الله جل شأنه قد اختار نبيه الأكرم محمداً| ليكون سيد البشر، بل سيد الكائنات والمخلوقات جميعها، بل إن عندنا نحن الإمامية أنه وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليه وعليهم) علة غائية للكون ([3]).
وهذا المعنى قد أشبعه القرآن الكريم وأشبعته الروايات الشريفة الواردة عنه| أو عن أهل بيت العصمة ^ ومن ذلك قوله| وقد رقى يوماً المنبر: «لما خلق الله عز وجل الخلق اختار العرب، فاختار قريشاً من العرب، واختار بني هاشم من قريش، ثم اختارني من بني هاشم؛ فأنا خيرة من خيرة. ألا فأحبّوا قريشاً ولا تبغضوها فتهلكوا، ألا كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلّا سببي ونسبي، ألا وإن علي بن أبي طالب من نسبي وسببي، فمن أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد ابغضني»([4]).
وهذه الرواية وأشباهها تبين لنا أن النبي الأكرم| هو القمة في هرم الرقي البشري والاختيار الإلهي، بل هرم المخلوقات التي لا تزاحمها قمة أبداً؛ ولهذا فإننا نجد أن البوصيري يصور هذا المعنى في همزيته فيقول:
كيف ترقى رقيك الأنبياء *** يا سماء ما طاولتها سماء
لم يساووك في علاك وقد حا *** ل سنا منك دونهم وسناء
ويقول شاعر آخر:
قلب الخافقين ظهراً لبطن *** فرأى ذات أحمد فاجتباها
أي خلق لله أعظم منه *** وهو ا لغاية التي استقصاها
نطقت يوم حمله معجزات *** قصـر الوهم عن بلوغ مداها
بشـرت أمه به الرسل طرا *** طرباً باسمه فيا بشـراها
لم يكن أكرم النبيين حتى *** علم الله أنه أزكاها([5])
إلى ذلك من الروايات والآيات الواردة في هذا المضمار، والتي أخذ الشعراء مضمونها ونظموه مبينين من خلال أشعارهم هذه أن النبي الأكرم| هو سيد المخلوقات والموجودات جميعها على الإطلاق، وهو الذي اختاره الله جل شأنه وميزه على مخلوقاته كافة.
يتبع…
___________________
([2]) في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾. الأحزاب: 33.
([3]) کما ورد ذلك في بعض الآثار حيث قال آدم ×: «إلهي، هل خلقت خلقاً قبلي هو أكرم عليك مني؟ قال: يا آدم، لولا هذه الأسماء ـ أسماء النبي| وأهل بيته^ ـ ما خلقت سماء مبنية، ولا أرضاً مدحية، ولا ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، ولا خلقتك يا آدم». الهداية الكبرى: 101، وفي الفتوحات المكية 1: 137 في خطابه تعالى لنبيّنا الأكرم|: «لولاك يا محمد ما خلقت سماء ولا أرضاً، ولا جنة ولا ناراً».
([4]) انظر: الأمالي (الصدوق): 254 / 391. عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار: 298 / 498. بحار الأنوار 25: 248 / 6. مناقب علي بن أبي طالب× 112 / 138. سبل الهدى والرشاد 1: 229. المستدرك على الصحيحين 4: 86، وفي بعض الروايات قوله|: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر والفقر فخري». عيون أخبار الرضا× 2: 38، باب فيما جاء عن الرضا× من الاخبار المجموعة، ح78. مسند أحمد 1: 5. سنن ابن ماجة 2: 1440 / 4308. المستدرك على الصحيحين 2: 605.