ساعات العمر
خطبة الجمعة
مسجد الإمام الرضا×
الحمد لله رب العالمين، أستغفره وأتوب إليه إنه هو التواب الرحيم. وأصلّي وأسلم على خير خلقه سيد الأولين والآخرين وآله الطيبين الطاهرين.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فإن خير الزاد التقوى، فتزودوا من الشهر الكريم، واطلبوا من الله العفو والمغفرة:
إلهي يا كثير العفو عفواً *** لما أسلفت في زمن الشباب
فقد سودت بالآثام وجهاً *** ذليلاً خاضعاً لك في التراب
فبيضة بحسن العفو عني *** وسامحني وخفف من عذابي([1])
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ علَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾([2]).
إن هذا الشهر المبارك هو شهر غفران الذنوب، وقبول العمل، وعتق الرقاب من النار، وما علينا إلّا اغتنام فرص العمر في العمل والعبادة، وعدم الاغترار ببهارج الدنيا وشهواتها؛ فإن العمر لا يعود، ولا نستطيع إطالة أمده، قال سبحانه: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾([3]).
فلا يمكن استرداد ما ذهب من العمر؛ ولذلك على الإنسان ألّا يغفل عن ساعات عمره، ولا يضيعها فيما لا قيمة له. وقد وجّه أهل البيت الأطهار^ إلى قيمة العمر وضرورة استغلاله، قال رسول الله‘ لأبي ذر الغفاري في وصيته له: «يا أباذر، كن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك»([4]).
وقال أمير المؤمنين×: «إنما الدنيا ثلاثة أيام: يوم مضى بما فيه فليس بعائد، ويوم أنت فيه فحق عليك اغتنامه، ويوم لا تدري أنت من أهله ولعلك راحل فيه. أما اليوم الماضي فحكيم مؤدب، وأما اليوم الذي أنت فيه فصديق مودع، وأما غداً فإنما في يديك منه الأمل»([5]).
وهكذا ينتهي عمر الإنسان، وينقضي زمانه وأوانه، فلا تكن ممن سوّف في عمره، وأجّل طاعة ربه، وضيّع شبابه في اللهو واللعب والمزاح والضحك:
ضحكنا وكان الضحك مِنا سفاهةً ***وحق لسكان البسيطةِ أن يبكوا
يحطمنا ريب الزمان كأننا *** زجاج ولكن لا يعادُ له سبكُ([6])
قد روي أنه جاء رجلٌ إلى الإمام علي بن الحسين’ يشكو إليه حاله، فقال×: «مسكين ابن آدم، له في كل يوم ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدة منهن، ولو اعتبر لهانت عليه المصائب وأمر الدنيا:
فأما المصيبة الاُولى، فاليوم الذي ينقص من عمره». قال: «وإن ناله نقصان في ماله اغتم به، والدرهم يخلف عنه والعمر لا يرده.
والثانية: أنه يستوفي رزقه، فإن كان حلالاً حوسب عليه، وإن كان حراماً عوقب عليه».
قال: «والثالثة أعظم من ذلك». قيل: وما هي؟ قال: «ما من يوم يمسي إلا وقد دنا من الآخرة مرحلة، لا يدري على الجنة أم على النار».
وقال: «أكبر ما يكون ابن آدم اليوم الذي يولد من أمه»([7]).
وقال الإمام الصادق×: «اصبروا على طاعة الله، وتصبروا عن معصية الله، فإنما الدنيا ساعة، فما مضى فليس تجد له سروراً ولا حزناً، وما لم يأتِ فليس تعرفه. فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها فكأنك قد اغتبطت»([8]).
وقال الإمام الباقر×: «لا يغرنك الناس من نفسك، فإن الأمر يصل إليك دونهم، ولا تقطع نهارك بكذا وكذا، فإن معك من يحفظ عليك عملك. وأحسن؛ فإني لم أرَ شيئاً أحسن دركاً ولا أسرع طلباً من حسنة محدَثة لذنب قديم([9])؛ إن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ﴾([10])»([11]).
فما أجدر بالعبد أن يغتنم فرص الخير في عمره، وأن يشتغل بعبادة ربه، خاصة في هذه الأيام المباركة التي نعيش فيها الأجواء الروحية الطاهرة، وساعات القرب من الله عز وجل؛ فإن هذا شهر العتق من النار! يقول‘: «هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه، وتلاوة كتابه»([12]).
لبستُ ثوبَ الرجا والناسَ قد رقدوا ***وقمت أشكوا إلى مولاي ما أجدُ
وقلتُ يا عدتي في كل نائبة *** ومن عليه لكشف الضـر أعتمدُ
وقد مددتُ يدي بالذلّ مبتهلاً *** إليك يا خير من مدت إليه يدُ
فلا تردنها ياربُ خائبةً *** فبحر جودِكَ يروي كل من يردُ([13])
___________________
([1]) البداية والنهاية 13: 120.
([4]) الأمالي (الطوسي) : 527 / 1162.
([5]) التحصين في صفات العارفين (ابن فهد): 16. بحار الأنوار 70: 111 / 109.
([7]) الاختصاص (المفيد): 342. بحار الأنوار 75: 160 / 20.
([9]) أي إن الحسنة تمحو الذنب ولو فعلها بعد حين.