الزمن والإنسان
خطبة الجمعة
مسجد الإمام الرضا×
2/9/1439هـ
الحمد لله رب العالمين، ديّان يوم الدين، وأستغفره وأتوب إليه إنه هو التواب الرحيم، وخير ناصر ومعين.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فإن خير الزاد التقوى، وإن الفوز للمتقين:
ملاكُ الأمر تقوى الله فاجعل *** تقاهُ عدةً لصلاح أمرِكْ
وبادر نحو طاعته بعزمٍ *** فما تدري متى يُمضـى بعمركْ([1])
قال رسول الله|: «أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله»([2]).
لقد اهتم القرآن الكريم بالزمن في العديد من السور والآيات الكريمة، فقال سبحانه: ﴿وَالْفَجْرِ﴾([3])، وقال سبحانه: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾([4])، وقال سبحانه: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾([5])، وقال تعالى: ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾([6])، وقال تعالى: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾([7])، وقال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾([8])، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تدل على أهمية الزمن الذي يشكّل حلقات متشابكة ومترابطة تصنع بحركتها دورة الزمن، وما علينا إلا الاستفادة منه، خاصة من هذا الشهر الكريم، قال رسول الله|: «إن شهر رمضان يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات، ويرفع فيه الدرجات». إلى أن قال: «إن شهركم هذا ليس كالشهور؛ إنه إذا أقبل إليكم أقبل بالبركة والرحمة، وإذا أدبر عنكم أدبر بغفران الذنوب. هذا شهرٌ الحسنات فيه مضاعفة، وأعمال الخير فيه مقبولة»([9]).
وعن الصادق×: «إن لله تعالى في كل ليلة من شهر رمضان عتقاء وطلقاء من النار إلا مَنْ أفطر على مسكر، فإذا كان آخر ليلة منه أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه»([10]).
ومن هنا نعلم في كل حالاتنا أن علينا أن ننتبه للعلاقة الوثيقة بيننا وبين الزمن، وأن نَبنيها على أساس الإنتاج والإبداع؛ فلابد أن نسبق الزمن، ونتطلع إلى الأمام. وقد أشار الإمام علي× إلى هذا المعنى بقوله: «ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر!»([11]). وعلى هذا فإن عامل السرعة إنما هو على حساب عمر الإنسان:
تمتع من الدنيا بأيسـر بُلغة *** ولاتكُ جماعاً فإنكَ هالكُ
سل الدهر عمن كان قبلك واعتبر *** فلم يبقَ ممللوك ولم يبقَ مالِكُ
وتنوف الآيات القرآنية التي تضمنت ذكر الليل والنهار على السبعين آية، والآيات التي تضمنت التركيز عليهما على الثلاثين آية. وقد نبه الإمام علي× على أهمية الزمن بقوله: «ما من يوم يمر على ابن آدم إلّا قال له ذلك اليوم: أنا يوم جديد، وأنا عليك شهيد، فقل فيَّ خيراً، واعمل فيَّ خيراً، أشهد لك به يوم القيامة؛ فإنك لن تراني بعد هذا أبداً»([12]).
ويقول×: «والفرصة تمر مر السحاب فانتهزوا فرص الخير»([13]).
وهذا إشارة إلى استثمار فرص الخير واستغلالها بالعمل لتطوير الحياة، وبناء المستقبل، والاستفادة من العمر:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضى نقص من الأجلِ([14])
الإنسان والزمن
ومن هنا نلاحظ أن الناس تجاه الزمن ينقسمون إلى قسمين:
الأول: الذي يعيش الحياة العادية من غير أن يطوّر حياته وأفكاره وأعماله، ومن دون أن يحقق أية مكاسب، يقول الإمام علي×: «فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها»([15]).
فمن يرضى لنفسه أن يضيع الفرص الخيرة؟
وعاجز الرأي مضياع لفرصته *** حتى إذا فات أمر عاتب القدرا([16])
الثاني: من يعيش العطاء والإنجاز، ويعطي أكثر من عمره، كالكثير من العلماء الذين خدموا الساحة العلمية والفكرية، يقول أمير المؤمنين×: «من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كانت الدنيا همته اشتدت حسرته عند فراقها، ومن كان غده شر يوميه فهو محروم، ومن لم يبالِ بمارزئَ من آخرته إذا سلمت له دنياه فهو هالك، ومن لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوى، ومن كان في نقص فالموت خير له»([17]).
ومن وصايا أهل البيت^: «لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد».
لذلك يحتاج البعض إلى تعلم فن الاستفادة من الوقت، وفن إدارة الوقت لكي يستفيد من عمره: «بادر بأربع قبل أربع: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك»([18]).
لذلك على الإنسان أن يتحسس عامل الزمن في تطوير حياته من خلال معرفة قيمة الوقت ليستفيد من عمره خاصة في مثل هذا الشهر المبارك؛ لتغيير حياته إلى الأفضل، وقد ورد في الخبر: «إذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضوا أبصاركم، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا ولا تغتابوا، ولا تماروا، ولا تكذبوا، ولا تباشروا، ولا تخالفوا، ولا تغضبوا، ولا تسابوا، ولا تشاتموا، ولا تنابزوا، ولا تجادلوا، ولا تبادوا، ولا تظلموا، ولا تسافهوا، ولا تزاجروا، ولا تغفلوا عن ذكر الله تعالى»([19])، والحديث طويل:
أطل علينا الشهرُ فيضاً من السما *** فضاعف للخيرات والرحماتِ
وهل بشيراً يحمل النور والهدى *** يمدُ سلال الخير والبركات
ويفرش للراجين دربا منوراً *** من الشوق والألطاف والقربات
ويفتح أبواب السماوات رحمة *** وقد مُدت الأرواح بالدعوات
أهنيك إن أمسيت ضيفا مكرماً *** على مهبط التسبيح والصلوات
(اللهم اجعلنا في هذا الشهر الشريف من عتقائك من جهنم، وطلقائك من النار، وسعداء خلقك في الدنيا والآخرة). والحمد لله رب العالمين.
__________________________
([1]) نفخ الطيب من غصن الآندلس الرطيب 4: 347.
([2]) عيون أخبار الرضا× 1: 265 / 53.
([11]) نهج البلاغة / الخطبة: 188.
([12]) من لا يحضره الفقيه 4: 397 / 5849.
([13]) نهج البلاغة / الحكمة: 21.
([14]) التفسير الكبير 32: 85. تاريخ مدينة دمشق 48: 451.
([15]) نهج البلاغة / الخطبة: 45.
([16]) البيان والتبيين: 385. عيون الأخبار (ابن قتيبة) 1: 90.
([17]) من لا يحضره الفقيه 4: 381 / 5833.