كشكول الوائلي _ 226
مكانة النخل وفضل ثمره
تقول الآية الكريمة: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ، والنخلة هي شجرة التمر التي تسمى العجوة، وقد ورد في الروايات: «أكرموا عماتكم النخل»(1). والمفسرون عندما يتناولون هذا الحديث يذكرون أسباب أمر اللّه تعالى بإكرامها، وهي:
أوّلاً: أنّها هبطت من الجنة
فحينما يعبر الحديث الشريف عنها بقوله: «عمّاتكم» فلأنّها هبطت من الجنة مع أبينا آدم عليه السلام. ويستفاد من هذه الرواية أن التمر من ثمار الجنة، وشجر الجنة وثمرها له خصائص يمكن أن تكون إحداها وجه فرق بيننا وبينها، فالإنسان عادة ينشّئ نفسه على أن يأخذ دون أن يعطي إلاّ ما ندر، فهو يطالب الآخرين بأن يكسوه ويشبعوه دون أن يتحرّك ليقدّم مقابلاً لذلك، بل إنّه يرتع في جوّ من الخمول. وهذه الظاهرة تُلبس ثوبا اجتماعيا، فنجد أنّ البعض لا يعمل عملاً ما بدعوى أنّ هذا العمل لا يناسبه ولا يناسب مكانته الاجتماعية. ثم إنه يقول: إنّ اللّه تعالى كما يدلّني عند الموت فكذلك يدلّني عند الرزق، فلماذا اُتعب نفسي إذن وراء الرزق وطلبه مع أنني يكفيني منها رغيف؟
وهذا في الواقع إنما يعطي تبريراته لأجل أن يقنع نفسه والمجتمع بصحّة مذهبه هذا، مع أنّه في واقع الأمر يريد أن يأخذ دون أن يعطي. أمّا النخلة فهي على العكس من هذا تعطي كل شيء ولا تأخذ منّا شيئا، فهي تعطي عطاء لا حدود له فيستفاد من جذعها وسعفها وورقها وثمرها الذي يعدّ غذاءً كاملاً. فكل جزء منها عطاء فضلاً عن جمال منظرها. كما أنّها تعدّ رصيدا اقتصاديا؛ لأنّ البلد الذي يكثر فيه النخيل لا يمرّ بمجاعة أبدا.
الثاني: شبهها بالإنسان
وهذا الوجه من الشبه هو أيضا مسوّغ لإكرام النخلة، ووجه الشبه هنا أنّها كالإنسان الذي حينما يقطع رأسه فإنّه يموت وهي كذلك إن يقطع رأسها تمت. ومن هنا أيضا يصح توجيه تعبير الحديث عنها بأنها «عمّاتكم».
المحبث الثاني: شرف العمل
تقول الآية الكريمة: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ لقد كان ديدن مريم عليها السلام قبل الحمل والولادة العبادة والانقطاع إلى اللّه تعالى، فقد وقفت كل وقتها على التوجه إلى اللّه وعبادته. وكل ذلك في المعبد الذي اتخذته محرابا لصلاتها وتعبّدها؛ ولذا فإن اللّه تعالى أراد أن يكافئها على انشغالها بذكره وعبادته بتوفير رزقها لها: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقَا(2)، فكان رزقها مكفولاً لها تؤتاه وهي في مكانها.
وسبب تعبّدها أنّ أمها «حنّة» نذرت للّه إن رزقها ولدا أن تجعله خادما للمعبد، فلما حملت نذرت ذلك، لكنها حينما وضعت كان الوليد انثى، تقول الآية: فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ(3). وكان هذا سبب أسفها؛ لأنها قد نذرت ولدا يخدم في المعبد، وهذه فتاة يمرّ عليها من الأدوار ما لا يمرّ على الرجل، وهذا يمنعها من أن تمكث في المعبد أو أن تعبد اللّه تعالى في هذه الأدوار والفترات. لكن اللّه تعالى جعلها بتول عذراء طاهرة لم ترَ الدم كما تقول الروايات، فكانت نظيفة طاهرة.
يتبع…
__________________
(1) وتتمّة الحديث الشريف: «فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم، وليس من الشجر يلقّح غيرها». وفي حديث آخر: «أطعموا نساءكم الولّد الرطب، فإن لم يكن رطب فالتمر، وليس من الشجر أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران». بحار الأنوار 57: 181، شرح اُصول الكافي 9: 164، مسند أبي يعلى 1: 353 – 354، كتاب أمثال الحديث: 73، الجامع الصغير 1: 212 / 1432.
(2) آل عمران: 37.
(3) آل عمران: 36.