كشكول الوائلي _ 224
في كرم الأكبر وشجاعته
ثم قال الشاعر:
يغلي نئيّ اللحم حتى إذا *** أنضج لم يغلُ على الآكلِ
كان إذا شبّت له ناره *** أوقدها بالشرف القابلِ
أقسام النار عند العرب
أودّ أن اُلفت النظر إلى أنّ للعرب أربعة عشر اسما للنار، كل اسم منها يدلّ على نار معيّنة ترتبط بحدث معيّن، وهذا ما كان عليه العرب كما يحدّثنا عنه تاريخهم. وسأذكر هنا ما يتعلّق منها بحاجتنا كي نخلص منها إلى معنى النار التي يريدها الشاعر وهو يصف بها عليا الأكبر. فمن هذه النيران:
الأُولى: نار الحرب
وهي النار التي توقد حينما يريدون الخروج للحرب؛ فقد كانت وسيلتهم في إعلام القبائل الاُخرى أن يعمدوا إلى مرتفع من الأرض فيشعلوا نارا عليها، فتراها تلك القبائل فتبادر إلى الاجتماع عندها. وهذه النار هي التي يعبّر عنها القرآن الكريم بقوله: كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (1).
وأظن أن هذه الظاهرة لم يختصّ بها العرب وحدهم، بل إن الشعوب البدائية كلها تلجأ إلى هذه الطريقة، كما عند شعوب أفريقيا؛ حيث إنّهم كانوا يستمدّون منها العزيمة.
الثانية: نار العبادة
وهي النار التي يتوجّهون إليها عند العبادة أو يتحلّقون حولها. وفكرة عبادة النار ناشئة من كون النار من دنيا القوى، ودنيا القوى أشرف.
وهذا هو الذي يدفع مُقدّسي إبليس إلى القول بتفضيله، ولذا يقول بشّار بن برد:
إبلِيسُ خيْرٌ من أَبِيكُمْ آدَم *** فتَنَبَّهُوا يَا مَعْشَرَ الفُجَّارِ
إِبْلِيسُ من نَارٍ وآدَمُ طِينَةٌ *** والاَرْضُ لاتَسْمو سموّ النارِ(2)
الثالثة: نار الحلف
وهيالنار التي يوقدونها حينما يريدون أن يقسموا على أمر، فيحلفوا بها، يقول شاعرهم:
إذا استقبلته الشمس صدّ بوجهه *** كما صدّ عن نار المهولة حالفُ(3)
الرابعة: نار الأحلاف
وهي نار توقد عندما يريدون أن يعقدوا معاهدة أو حلفا بينهم، فإذا تحالفت قبيلتان أو أكثر على أمر أوقدوا لذلك نارا.
الخامسة: نار القِرى
وهي النار التي أشار إليها الشاعر في بيته الآنف. ونار القرى هي النار التي يوقدونها ليلاً سيّما في الليالي المظلمة والباردة؛ ليستدلّ بها الطارق أو ابن السبيل على مضاربهم وربوعهم فيُقروه، أي يضيّفوه؛ ولهذا فإنّ هؤلاء يعمدون إلى إشعالها على ربوة أو تلّة كي يسهل على الطارق رؤيتها.
ومعلوم أن وسائل المواصلات عند الناس سابقا كانت بدائية، فإذا أراد أحدهم سفرا بعيدا فإنّه لن يصل إلى هدفه بزمن قياسي كما هو الحال اليوم؛ ولذا فإنّ المسافر كان يحتاج إلى أن يستغرق في سفره أيّاما وليالي كثيرة مع ما يصاحب ذلك من تعرّضه للبرد شتاءً، ولم تكن هناك ـ سيما في الصحراء ـ فنادق أو دور استراحة؛ ولذا كانت محطّات التوقّف للمسافر آنذاك بيوت العرب الذين اشتهروا بالكرم والجود وإقراء الضيف. ومعروف أنهم كانوا يتسابقون إلى اجتذاب الأضياف عبر إيقاد هذه النار على المرتفعات القريبة منهم. قال حاتم الطائي مخاطبا غلامه يسارا:
أوقد فإنّ الليل ليل قَرُّ *** والريح يا موقد ريح صِرُّ
علّ يَرى نارك من يمرُّ *** إن جلبت ضيفا فأنت حرُّ(4)
يتبع…
_________________
(1) المائدة: 64.
(2) ديوان بشّار: 539. بل وهو ما دعا إبليس نفسه الى التفاخر بها على آدم في قوله تعالى: قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ الأعراف: 12.
(3) الفائق في غريب الحديث 3: 256 – 257، تنزيل الآيات على الشواهد من الأبيات (شرح شواهد الكشاف): 467، لسان العرب 11: 713 ـ هول. ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطرحون الملح في النار مع الكبريت ويتحالفون عليه، ويسمون تلك النار الهولة، وموقدها المهول.
(4) تفسير السمعاني 1: 350، الوافي بالوفيات 10: 51، أضواء البيان 7: 16.