كشكول الوائلي _ 223
رجـع
إذن فكلام القرطبي في هذا المورد مرفوض؛ لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يتشرّف بالزهراء وإن كان قد تشرّف برسول اللّه صلى الله عليه وآله، بل الزهراء هي التي تشرفت به. وهو كلام عجيب يثير الاستغراب، وأنا لا أتّهم القرطبي، بل أظن أنّ في الأمر غفلة وقع فيها، فهذا الرجل عقلية ضخمة، وكونه صادرا من هذا الرجل يحملني على حسن الظن به وعدم تهمته، بل أحمله على الغفلة، أمّا أن يصدر من غيره فأنا أتّهمه. ولهذا الكلام نظير، وهو أن معاوية بن أبي سفيان سأل جلساءه يوما، فقال لهم: من أحقّ بالخلافة؟ قالوا: أنت. وهؤلاء بطبيعة الحال لا يمكن أن يعدوا هذا الجواب، أو أن يجيبوا بغيره وإن لم يكن عن قناعة منهم؛ لأنهم صنائعه، فقال لهم: لا، أنا لست الأحقّ بها. فعجبوا من قوله، وقالوا: فمن هو الأحقّ بها إذن؟ قال: علي الأكبر بن ليلى.
وهنا موضع الشاهد؛ حيث إنه نسبه إلى اُمّه بقوله: ابن ليلى، فقالوا له: ولم؟ فقال: لأن فيه زهوَ ثقيف. ذلك أن اُمّه هي ليلى ابنة أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفي؛ فهو يلتقي مع المختار بن أبي عبيدة عند جدّهما الرابع من ناحية الاُمّ. وقوله: فيه زهو ثقيف، لأن ثقيفا كانت عندها خصلة الزهو والخيلاء، والاعتزاز بالنفس، والعنفوان.
ثم قال معاوية: وسخاءَ اُميّة. ذلك أن جدّته لاُمّه ليلى هي ميمونة بنت أبي سفيان. ومعنى هذا أنه يريد أن يقول: إننا ورّثناه سخاءنا.
ثم قال: وشجاعةَ هاشم.
ونحن نقول لمعاوية: هذا السخاء الذي نسبه للأمويين من أين ادّعاه؟ هل هو قبل أن يتولّى الخلافة أم بعدها؟ فإن كان قبل الخلافة فليُرجع إلى كتب التفسير في تفسير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ(1)، فالمفسّرون بصورة عامّة يقولون: إن هند زوجة أبي سفيان جاءت لتبايع، فلمّا فرغت قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل بخيل، فهل عليّ أن اُطعم عيالنا من ماله؟ قال صلى الله عليه وآله: «لا، إلا بالمعروف». أي بقدر الحاجة(2). فمن يبخل على أهله كيف يوّرث غيره السخاء؟ وإن كان بعد أن وصلت إليه الإمارة والسلطة فهو من باب «وهب الأمير ما لا يملك»:
ومن دخل البلاد بغير حرب *** يهون عليه تسليم البلادِ(3)
وهذا البيت ينطبق عليه تماما، وأبسط مثال على ذلك أنّ الأمر وصل به أن أعطى مصر طعمة لعمرو بن العاص بعد أن طلب هذا الأخير منه ذلك، ووقف له قائلاً: ما لي إن شايعتك على أمرك حتى تنال ما تريد؟ قال: حكمك. قال عمرو: اجعل لي مصر طعمة ما دامت لك ولاية. فقال له معاوية: لك مصر طعمة(4).
وهذا الذي يذكره المؤرّخون كافّة. فهل يعدّ كرما أن يمنح بلدا بأكمله إلى شريك له بالإثم والمعصية؟ من أين أتته هذه الصلاحيّة؟ ومن أعطاه خاصية التصرّف هذه؟ فهل ورثه من أبيه؟
والنتيجة أنهم غير معروفين بالسخاء، لكن حينما تسلّموا السلطة وأصبحت أموال المسلمين بأيديهم بدأ التصرّف غير المشروع بها.
وهذا ما لا يمكن أن يُسمى سخاءً بل إنّه سوء تصرّف وعبث بأموال المسلمين؛ لأنّ السخاء أن يعطي الإنسان من كسب يده وعرق جبينه وتعبه، كما فعل أمير المؤمنين عليه السلام حيث أوقف عينين له احتفر أحدهما بيده، يقول أبو نيزر: كان للإمام علي عليه السلام قطعة أرض يملكها، فجاءني يوما وأنا أقوم بالضيعتين: عين أبي نيزر والبغيبغة فقال: «هل عندك من طعام؟». فقلت: عندنا طعام لا أرضاه لك، قرع من قرع الضيعة صنعته. فقال عليه السلام : «عليّ به». فقام إلى الجدول فغسل يده، ثم أصاب من ذلك الطعام شيئا: ثم رجع إلى الجدول، فغسل يده بالرمل حتى أنقاها، ثم ضم يديه كلّ واحدة إلى اُختها، ثم شرب بهما وقال: «يا أبا نيزر، إن الأكفّ أنظف الآنية».
ثم مسح من ذلك الماء على بطنه وقال: «من أدخله بطنه النار فأبعده الله». ثم أخذ المعول وانحدر إلى العين فأقبل يضرب فيها وأبطأ عليه الماء فخرج وقد تفضّخت جبهته عرقا، فاستشفّ العرق من جبينه ثم أخذ المعول وعاد إلى العين فأقبل يضرب فيها وجعل يهمهم، حتى انثالت كأنها عنق جزور، فخرج مسرعا فقال: «الله أكبر، سيخيب الوارث، اُشهد الله أنها صدقة. عليّ بدواة وصحيفة». فعجّلت بها إليه، فكتب عليه السلام : «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما تصدّق به عبد الله علي أمير المؤمنين، تصدّق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر والبغيبغة على فقراء أهل المدينة وابن السبيل؛ ليقيَ الله وجهي حرّ النار يوم القيامة، ولا تباعا ولا توهبا حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين، إلاّ أن يحتاج الحسن أو الحسين فهما طلق لهما ليس لأحد غيرهما»(5).
وهكذا فعل عليه السلام بعيني أبي نيزر والبغيبغة اللتين كانتا يملكهما فقد استنبعهما وأصلح بهما الأرض، ثم أوقف ذلك كلّه على فقراء المسلمين ومساكينهم. وهذا هو السخاء الحقيقي الذي يكون عن عرق الإنسان وكدّه، والذي أوصل أمير المؤمنين عليه السلام إلى أنّه كان يرجع إلى البيت خالي اليد دون أن يحمل معه حاجة لأهله، فقد كان يفرّق جميع ما يحمله معه على بيوت الفقراء ويوزّعه عليهم.
وهاتان العينان دفع فيهما معاوية نفسه مليوني دينار للإمام الحسين عليه السلام حينما ركبه دين، فأبى عليه السلام أن يبيع صدقات أبيه، وقال: «إنما تصدّق بها أبي ليقي الله بها وجهه حرّ النار»(6).
فعطاء أمير المؤمنين عليه السلام هو العطاء؛ لأنّه في شيء سكب عليه عرقه وحازه بكدّه وتعبه، أمّا أن يستولي شخص على أموال الآخرين ويكرم بها غيره فهذا لا يسمى جوادا أو كريما، بل هو مغتصب وفعله ليس جوداً أو سخاءً.
ثم إنّ محاولة معاوية تلك ـ قوله: إنّ الأكبر أحقّ بالخلافة ـ هي محاولة لئيمة وفكرة حقّ يراد بها باطل.. فكرة قد دُسّ السمّ بين ثناياها، فهو يريد أن يصرف الناس عن الإمام الحسين عليه السلام ويلقي حوله ظلالاً من الشك، وإلاّ فإن الحق أن يقول: إن الحسين عليه السلام أحق بها؛ لأنّه يعرف منزلة الحسين ومكانته وأحقيته بالخلافة(7).
إنّ هؤلاء قد عمدوا إلى نفي الحسين عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله؛ لأنهم يعلمون أنهم لا يمكن أن يصلوا إلى الخلافة في وجود الحسين عليه السلام، فقد ادّعوا أن الحسين عليه السلام إنّما هو ابن علي بن أبي طالب عليه السلام وليس ابن رسول اللّه صلى الله عليه وآله بل هو ابن ابنته الزهراء، وابن البنت ليس ابنا(8). وهذه العملية هي محاولة مفضوحة لتشويه الحقيقة في أعين الناس، وإظهارها أمامهم بمظهر مغاير؛ لأنها محاولة يهدف من ورائها إبعاد نظر الناس عن الإمام الحسين عليه السلام كما قلنا.
يتبع…
___________________
(1) الفتح: 10.
(2) فتح الباري 9: 447، عمدة القاري 16: 284، 21: 19، الإصابة 8: 347، تاريخ مدينة دمشق 70: 177 – 178، وكذلك كتب الحديث، ومنها مارواه كل من أحمد بن حنبل، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم من أن فاطمة بنت قيس جاءت رسول الله صلى الله عليه وآله فذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: « أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لامال له ».
انظر: مسند أحمد 6: 412، صحيح مسلم 4: 195، سنن أبي داود 1: 510 / 2284، سنن النسائي 6: 77 – 75.
(3) مجمع الحكم والأمثال ج1 / موضوع الوطن.
(4) تاريخ الطبري 4: 73 – 74، الأخبار الطوال: 158، تاريخ اليعقوبي 2: 186، الغارات 1: 271 – 272، 2: 748، سير أعلام النبلاء 3: 72 – 73.
(5) مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام 2: 81 – 83 / 365، جامع أحاديث الشيعة 19: 110 – 111، معجم ما استعجم 2: 657 660.
(6) المصدر نفسه، وفيها: مئتا ألف دينار.
(7) إن هذا القول يذكّر بمحاولة المأمون إبعاد أمير المؤمنين عليه السلام عن الخلافة وإعطاء الحقّ فيها للحسنين عليهما السلام بعد أن أثبت أفضليته عليه السلام على سائر الخلفاء. العقد الفريد 4: 3616 ـ 3637.
(8) حول موضوع كون ابن الابنة ولدا صلبيّا انظر محاضرة (البناء الاُسري في الإسلام) في ج 4 من موسوعة محاضرات الوائلي.