كشكول الوائلي _ 222
القرطبي ونسبة الحسنين عليهما السلام إلى فاطمة عليها السلام
وأنا أستغرب من شيء يستغرب منه القرطبي، هذا المفسّر الضخم والذي يُعدُّ تفسيره طعمةً؛ إذ يجد فيه القارئ الفكرة الرأي الفقهي والاُصولي والجانب التاريخي، لكنّه مع ذلك حينما يأتي إلى هذه الآية الكريمة: ادْعُوهُمْ ِلآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ(1) فإنّه يقول: إن جميع الناس يوم القيامة يدعون بأسماء اُمّهاتهم؛ وذلك لثلاثة أسباب:
الأوّل: إكراما لعيسى بن مريم عليه السلام، لأنه لا أب له.
الثاني: تشريفا للحسنين عليهما السلام بنسبتهما إلى اُمّهما.
وهذه فكرة غير مقبولة؛ لأنّ اللّه تعالى لو أراد أن يناديهما باسم أبيهما أمير المؤمنين عليه السلام الذي يقول فيه رسول اللّه صلى الله عليه وآله مخاطبا فاطمة: «زوّجتك خير الناس من بعدي»(2)، لما كان يضيرهما ممّا يدّعيه شيء. والزهراء عليها السلام وغيرها لا يرقون إلى مستوى علي بن أبي طالب عليه السلام الذي هو إمام المتّقين، ويعسوب الدين، ومفخرة الإسلام.
أيّهما تشرف بهذه الزيجة؟ علي أم فاطمة عليهما السلام
وهذه المسألة يُثيرها المؤرّخون فيقولون: أيّهما تشرّف بالزواج من صاحبه؟ هل هو علي بن أبي طالب عليه السلام، أم فاطمة عليها السلام؟ وكأن هؤلاء قد تناسوا أن الإمام عليّاً عليه السلام هو حامي الإسلام ورافع لوائه في أربع وثمانين غزوة كان فيها المدافع عن حمى المسلمين والمدرسة السيارة الذي لا زالت آراؤه إلى الآن يضيق عنها الزمان. ومن يطلع على فكر علي بن أبي طالب عليه السلام يجد فيه العجب العُجاب، وليس كلُّ ما يعرف يُقال.
إذن فهذا الرأي الذي يطرحهُ القرطبي لا يُقبل بأي حالٍ من الأحوال، وليس من المعقول أن اللّه جل وعلا يدعو الناس بأسماء اُمّهاتهم ولو ضمنا على حساب الحسنين عليهما السلام، فيشرفهم بنسبتهم إلى اُمّهم.
الثالث: أن في ذلك سترا على الناس؛ إذ أن البعض منهم أولاد زنا، فإن نودوا بأسماء آبائهم الحقيقيّين افتضحوا واُمّهاتهم.
وهنا أودّ أن اُلفت النظر إلى أنّ الوالد الحقيقي الذي يُسمى والدا هو الاُم وليس الأب، والأب إنّما يُسمى والدا من باب المقابلة. وهذا من قبيل إطلاق اسم القمرين على الشمس والقمر فهو إطلاق تغليب ومقابلة كما هو مذكور في علم البلاغة. فالأب والد لأنه يقابل الاُم، لأن الأب لا يلدّ والاُم هي التي تلد والتي يقع عليها عبء الولادة وآلامها.
وهذا الأمر من جملة الاُمور التي يستند إليها الفقهاء في باب التزاحم في الحكم بتقديم قول الاُم على قول الأب فيما لو تساويا فلو قال الأبُ: لا تفعل، وقالت الاُم: افعل أو بالعكس، وجب تقديم قول الاُم ما لم يكن فيه معصية للّه أو ضرر للولد؛ لأن تعب الاُم على ولدها أكثر من تعب الأب عليه. فالأب يضع ابنه وهو في ألذّ حالاته أما الاُم فتضعه في أشدّ حالاتها، وربما وضعته وهي في حالة نزع واحتضار فإن نجت وسلمت فإنّها تكون قد نجت باُعجوبة. هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فإن الأب لا يستطيع أنّ يتحمّل هذا الطفل وصراخه ليلاً، في حين أن الاُم تلتذّ بتربيته مع ما يسبّبه لها من أذى. وهذا يدلّ على عمق علاقة الاُمومة التي تسري في كيانها وعروقها.
ثم إنّ من أشدّ الاُمور إيلاما للمرأة وجرحا لعاطفتها هو قول القائل لها: إنك امرأة عقيم، فهو قول فظيع من وجهة نظرها؛ لأ نّه يطعن اُمومتها ويضربها في الصميم؛ فأعظم وظائف الاُم هي الاُمومة وتربية الولد.
إذن فالأب والد مجازي للمقابلة، وهما والدان للتغليب، والاُم والدة حقيقة، وهذا ما يشير إليه التعبير القرآني الدقيق في قوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ(3) فتأمّل قوله عزّ وجلّ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ، فهو لا يسميه والدا ولا يطلق عليه هذا اللفظ هنا أبدا. وحتى تعبير الْمَوْلُودِ لَهُ لم يكن ليستحقّه لولا أنه من مائه. فمن يلد فعلاً هي الاُم؛ ولذلك جعل اللّه الجنّة تحت أقدامها على لسان رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله في قوله: «الجنة تحت أقدام الاُمّهات»(4). فلا يدخل في خلد أحد أنّ لأحد حقّا على الآخر كالحقّ الذي افترضه اللّه تعالى للأم على ولدها؛ لأنّها الكائن الوحيد الذي يتحمّل كل أذى الوليد منذ وضعه وحتى نضجه، فهي التي كرّست له كل حياتها وجهدها وطاقتها بمواصلة رعايته وتربيته، وبذلت كل حياتها ونذرتها لأجله.
فالاُم يخالجها شعور بأنّ الدنيا قد ابتسمت لها حينما يبتسم لها وليدها، وتظن أنّ الدنيا قد أغلقت أبوابها بوجهها حينما ترى وليدها قد مسّه مرض أو ألم. وهذا هو السبب الذي من أجله جعل اللّه حقوق الاُم أعظم من حقوق الأب، فهي صانعة الحياة وبانية الأجيال ومشيّدة المجتمع، والتي تملأ كل ذلك حنانا وعطفا. لقد أعجبني قول أحد الاُدباء وهو يصفها: «تغريد الملائكة بفم الاُم لطفلها». وهذا هو الذي يتوجّب علينا توفيره للطفل؛ لأ نّه كائن ضعيف يحتاج إلى العطف والحنان والرعاية، ولا أحد يستطيع أن يملأ نفسه بهذا سوى الاُم ببسمتها له ومناغاتها إيّاه وضحكتها في وجهه.
يتبع…
_____________________
(1) الأحزاب: 5.
(2) مناقب آل أبي طالب 3: 122، وفيه: «خير من أعلم»، الطبقات الكبرى 8: 24، تاريخ مدينة دمشق 42: 126، كنز العمّال 11: 605 / 32926، 13: 135 / 36423، وفيها: «خير أهلي».
وفي الأمالي ( الصدوق ): 434 / 574: عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان ذات يوم في منزل اُم إبراهيم، وعنده نفر من أصحابه، إذ أقبل علي بن أبي طالب عليه السلام، فلمّا بصر به النبي صلى الله عليه وآله قال: «يا معشر الناس، أقبل إليكم خير الناس بعدي، وهو مولاكم؛ طاعته مفروضة كطاعتي، ومعصيته محرمة كمعصيتي».
وفي بشارة المصطفى ( الطبري ): 420 – 421 / 28: «يا علي أنت خير الناس بعدي، وأنت أوّل الناس تصدّرا، من أطاعك فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاك فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أحبّك فقد أحبّني، ومن أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، يا علي لا يحبّك إلا مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق أو كافر».
(3) البقرة: 233.
(4) مستدرك وسائل الشيعة 15: 180 / 17933، مسند الشهاب 1: 102 / 118، كنز العمّال 16: 461 / 45439.