كشكول الوائلي _ 221
في نسبة البعض إلى اُمّهاتهم
إنّ أوّل ما يطرأ على البال عندما نقرأ قول الشاعر:
أعني ابن ليلى ذا السدى الندى *** أعني ابن بنت الحسب الفاضلِ
هو تساؤل حول سبب نسبة بعضٍ إلى اُمّهاتهم عند العرب، وعن الداعي الذي يدفعهم إلى ذلك حتى قال الشاعر هنا: «ابن ليلى».
إننا نعرف أن عند العرب أغراضا وأساليب بلاغية يستخدمونها في كلامهم، وعندما ينسبون شخصا إلى اُمّهِ فإن لهم حتما أهدافهم الخاصة، ومن هذه الأهداف:
أوّلاً: التحقير
فعندما يريدون أن يحقروا أحدا ينسبونه إلى اُمّه، ووجه التحقير كأن توجد فيه عاهة اجتماعية، فيقولون: يابن الزرقاء، ويابن النابغة، ويابن فلانة. وهذا ما كانوا يفعلونه مع زياد؛ حيث إنّهم كانوا ينادونه بابن سمية، وكذلك كانوا ينادونه بابن أبيه؛ ولذلك فإن السيّدة عائشة أرادت يوما أن تكتب كتابا لزياد جوابا على كتاب كان قد كتبه إليها، فتحيّرت ما الذي تكتبه له؛ هل تكتب زياد بن أبي سفيان وهذا كذب، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»(1)، فمن لم يولد على فراش شرعي لا يعتبر ولدا شرعيّا، أم زياد بن أبيه (كما هو المعروف) وهذا يترك أثراً في نفسه وخاطره ويغضبه، وأخيراً كتبت: من اُم المؤمنين إلى ولدها زياد. فلما وصلت الرسالة إليه تبسّم، فسأله أحد جلسائه قائلاً: ضحكت؟ قال: لقد لقيت اُمّ المؤمنين من هذا العنوان نصبا(2).
ثانيا: التعظيم
وفي المقابل فإنّ العرب يسمون الإنسان باسم اُمّه للتمجيد والتعظيم، وذلك فيما إذا طغت شهرة الاُم على شهرة الأب. فهنالك الكثير ممن ينسب إلى اُمّه؛ لأنّ لاُمّهِ شهرة وتأثيرا كبيرا ومكانة في الحياة أكبر من تلك التي لبعلها. وحينئذٍ فإن هذا ينسب لاُمّه لهذا السبب.
ثالثا: لاشتهار الأب شهرة فائقة
وهذا من الأسباب أو الأهداف التي كان العرب يضعونها في اعتبارهم عندما يريدون نسبة أحدٍ؛ فإنهم حينئذٍ ينسبونه إلى اُمّه. فحينما يمتلك الأب شهرة طاغية جدا فإنّهم يلجؤون إلىْ نسبة ولده إلى اُمّه كي يوجدوا معادلة بين شهرة الاُمّ وشهرة الأب. فالولد حينما يكون أبوه بهذه الصفات ويمتلك تلك المكانة الكبرى وذلك المركز الاجتماعي الراقي، وتكون اُمّه غير معروفة فإنهم حينئذٍ ينسبونه إليها حتى يقال: إنّه ليس ابن أبٍ عظيم فقط، وإنّما هو ابن اُمٍّ عظيمة. وهذا ما فعله الفرزدق مع الإمام زينالعابدين عليه السلام؛ حيث دخل هشام بن عبد الملك ـ وهو لا يزال وليّ العهد ـ إلى الكعبة فلم يجد طريقا إلى الحجر الأسعد، فاضطرّ إلى الجلوس والانتظار. وفي هذا الوقت يدخل علي بن الحسين عليه السلام، فانفرج له الناس سماطين حتى وصل الحجر ولمسه، ويُسأل هشام: من هذا؟ فيقول: لا أعرفه. وكان يعرفه، لكنه خشي أن يميل الناس إليه، لكن الفرزدق ينبري له ليقول:
هذا ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهلَهُ *** بجدِّهِ أنبياءُ اللّهِ قد خُتِموا
وليس قولُك من هذا بضائِرِهِ *** العُربُ تعرِفُ من أنكرتَ والعَجَمُ(3)
والفرزدق من محبي أهل البيت عليهم السلام يدل عليه أنه حينما وفد أبوه غالب بن صعصعة على أمير المؤمنين عليه السلام وهو معه قال له عليه السلام: من أنت؟ فقال: غالب بن صعصعة المجاشعي. قال عليه السلام: «ذو الإبل الكثيرة؟». قال: نعم. قال: «ما فعلت إبلك؟». قال: أذهبتها النوائب، وذعذعتها الحقوق. قال عليه السلام: «ذاك خير سبلها. ومن هذا الغلام معك؟». قال: ابني، وهو شاعر. قال: «علّمه القرآن؛ فهو خير له من الشعر»(4).
وإنما قال له الإمام عليه السلام ذلك لأنّه خشي أن يغلب عليه قول الشعر وإنشاده ويصبح في وضع يمدح به هذا ويذمُّ ذاك دون أن يستحق المدح ممدوحُه أو القدح مقدوحُه.. خشي عليه أن يمدحَ التوافه وأن يقع في هذا النمط من قول الشعر لكسب الأموال.
إذن كان بوسع الفرزدق أن يقول له: هذا ابن علي أو هذا ابن رسول اللّه صلى الله عليه وآله لكنّه لم يفعل لأ نّه يريد أن يقول له: إنّ عليّ ابن أبي طالب أو رسول اللّه صلى الله عليه وآله معروفان وهما من الشهرة والمكانة بدرجة لا يحتاجان معها إلى زيادة إيضاح، ويقول كذلك: اُريد أن أزيد فقط أن هذا ينتمي من جهة إلى علي عليه السلام ومن جهة اُخرى إلى رسول اللّه عن طريق فاطمة عليها السلام. ومثل هذا قول الشاعر مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وآله:
يابن الفواطم والعوا *** تك والترائك والأرائكْ(5)
وهذا لبيد يفخر باُمّ البنين في مجلس النعمان:
نحن بنو اُمِّ البنينِ الأربعهْ *** ونحنُ خيرُ عامر بن صعصعهْ
المطعمونَ الجَفنةَ المدعدَعَهْ *** والضاربونَ الهامَ تحتَ الخيضعهْ(6)
فلبيد يفخر باُمّ البنين والمفروض أن لها بعلاً، لكن كان يريد أن يفخر بها حتى يُوجد معادلة في هذا.
إذن كان أمرا ضروريا عند العرب أن يتساوى أبو الرجل واُمّه وإلاّّ عُدّ هجينا، بل ربما يخلق له هذا الأمر مشكلة، ولأضرب لك مثلاً هذه الحادثة حيث دخل ثلاثة إخوة إلى سوار بن عبد الله بن قدامة القاضي، فقال أحدهم: إننا إخوة وقد مات أبونا. فقال: رحمه اللّه. قال: ونحن الاثنان أشقّاء، أمّا الثالث فاُمّه أمة، ونريدك أن تقسم الميراث بيننا. فقال: ليس في البين مشكلة؛ فلكلّ واحد منكم الثلث. فقالا معا: لا نراك فهمت. قال: بل فهمت؛ فإنه أخوكما، وكونه هجينا لا يبخسه حقّه من ميراث أبيه. قالا: تعطي ابن الأمة كما تعطي ابن الحرّة؟ فقال: بلى. فقالا: إنك لقليل الخالات بالدهناء(7).
أي بتعبير آخر إنك لست ابن البادية، وليست عروبتك عروبةً خالصة، وإلاّ لو كنت كذلك (لك خالات بالدهناء، أي من قلب العرب)، لما قلت هذا.
وهذا اللون من العصبية الذي يُعدّ ابن غير العربية هجينا توجّه يخلق نوعا من المشاكل بين الإخوة، وهو توجّه يرفضه الإسلام.
على أية حال فإن الفرزدق لا يجهل أن الزهراء لا ترقى إلى مستوى علي بن أبي طالب عليه السلام.
يتبع…
___________________
(1) الكافي 5: 491 /، 492 /، 7: 163 /، كتاب المسند ( الشافعي ): 188، مسند أحمد 1: 25، وغيرها.
(2) شرح نهج البلاغة 16: 204، تاريخ مدينة دمشق 19: 177.
(3) ديوان الفرزق: 178، مناقب آل أبي طالب 3: 306، تهذيب الكمال 20: 400 ـ 401، سير أعلام النبلاء 4: 398.
(4) تقول الرواية: فكان ذلك في نفس الفرزدق، حتى قيّد نفسه، وآلى ألاّ يحلّ قيده حتى يحفظ القرآن الكريم، فما حلّه حتى حفظه. وفي ذلك يقول:
وما صبّ رجلي في حديد مجاشع *** مع القدّ إلاّ حاجة لي اُريدها
شرح نهج البلاغة 10: 21 – 22، كنز العمال 2: 288 / 4026، الإصابة 5: 301 / 7050.
(5) البيت لبديع الزمان الهمداني. تذكرة الخواصّ: 34، أعيان الشيعة 10: 78. والفواطم اللائي ولدن رسول الله خمس: قرشية وقيسيّتان ويمانيّتان. فالقرشية هي فاطمة بنت عمرو، اُم أبيه عبد اللّه. والقيسيتان هما فاطمة بنت عبد الله بن رزاح، واُمّها فاطمة بنت الحارث. واليمانيّتان هما اُم قصي بن كلاب فاطمة بنت سعد، وفاطمة بنت نصر بن عوف، اُم حيي بنت حليل. وأما العواتك فاثنتا عشرة: قرشيّتان، وهما عاتكة بنت هلال جدّة اُمّه آمنة بنت وهب، وعاتكة بنت غالب بن فهر. وواحدة من بني يخلد بن النضر وهي عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة. وثلاث سلميات هن عاتكة بنت مرة اُم هاشم بن عبد مناف، وعاتكة بنت هلال اُم عبد مناف، وعاتكة بنت الأوقص بن مرة اُم جدّه لاُمه وهب بن هلال. وعدويتان ـ من جهة أبيه عبد الله ـ وهما عاتكة بنت عامر، وعاتكة المعروفة بالحصان بنت عدوان. وأزدية هي عاتكة بنت الأزد بن الغوث. وقد ولدته هذه الأزدية مرّة أخرى من قبل غالب بن فهر؛ فإن اُمه ليلى بنت سلمى بنت طابخة، وهي ابنة عاتكة بنت الأزد هذه. وهذلية هي عاتكة بنت سعد. وقضاعية هي عاتكة بنت رشدان. وأسدية هي عاتكة بنت دودان بن أسد. تاريخ اليعقوبي 2: 181 – 124، النهاية في غريب الحديث والأثر 3: 180، الكامل في التاريخ 2: 33 – 41.
(6) ديوان لبيد (ضمن ديوان الفروسيّة): 168، الأمالي ( المرتضى ) 1: 136، الإرشاد 2: 18، شرح نهج البلاغة 16: 50، مقاتل الطالبيّين: 149، تاريخ مدينة دمشق (ترجمة الإمام الحسن عليه السلام ): 157، قصص العرب 3: 111 ـ 114 / 48.
(7) الكامل في الأدب 2: 48.