كشكول الوائلي _ 219
المبحث الثالث: أن المنافقين كانوا منهزمين من الداخل
ففي الآية الكريمة تصوير واضح لهذه الحالة التي كانت تتملك هؤلاء، وهي حالة تنافي ما كان يُريده الإسلام من الطبيعة التي يجب أن يكون عليها المسلمون، إذ أنه كان يعمد إلى بناء المسلم بناءً قائما على أساس التعبئة الداخلية. وهذه التعبئة السليمة هي الأساس الذي بُنيت عليه دولة الإسلام، وهي السبب الذي كنا نرى عبره مبرّرات انتصار المسلمين في معاركهم ضدّ قريش وجبروتها وضدّ القوتين الكُبريين السائدتين آنذاك. فمن غير المعقول مثلاً أن ينتصر المسلمون في معركة بدر وهم ثلاثمئة وثلاثة عشر مقاتلاً على جموع قريش وجبروتها وأسلحتها وحقدها، في الوقت الذي لم يكن لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله سوى بضعة سيوف وبضعة نوق وبعض أسلحة بسيطة.
فانتصارهم هذا دون شك راجع إلى التعبئة الإيمانية التي عبأهم بها الرسول صلى الله عليه وآله، والتي كانت تزلزل الأرض تحت أقدام الجبابرة بحيث إنها كانت بمقدارٍ لو أن اُمم الأرض تداعت عليهم من كلِّ مكان لهزموها؛ لأنّ التعبئة النفسية هي الأساس الذي يحقق كلَّ نصر، وهي السلاح الأوّل الذي يجب أن يتسلح به المقاتل. ولو إننا رجعنا إلى العقيدة العسكرية عند الدول المعاصرة لوجدنا أن عندهم فرعا من فروع علم النفس اسمه علم النفس العسكري، وفرعا من فروع علم الاجتماع اسمه علم الاجتماع العسكري. ومهمة علم النفس العسكري هي تعبئة الفرد تعبئةً كاملة، فهي تزوّده بسلاحين:
الأوّل: التعبئة النفسية
وهي عملية يُهدف منها إلى أن يؤمن هذا المقاتل بأن العسكر الذي سيقف قُبالته سينهزم أمامه؛ لأ نّه كيان منخور ويعيش حالة من الهزيمة الداخلية، وهو عسكرٌ ليس لديه عقيدة بخلافه هو؛ حيث إنّه يمتلك عقيدة تؤهّله لأن يصمد بوجههم، وتُشعره بأنه ذاهب إلى اللّه دون أن يكون ذلك الشعور موجودا عندهم: إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(1).
فهذه التعبئة تُقنعهُ بأنّه ذاهب إلى الحياة الدائمة المليئة بالنعيم: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(2).
ظروف التعبئة النفسية في الإسلام
إن التعبئة النفسية في الإسلام تقوم على جملة من الأساسات منها: وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمَا حَكِيمَا(3)، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ(4). فهاتان وسيلتان من وسائل التعبئة التي اعتمدها الإسلام الحنيف ورسوله الكريم في تعبئة المسلمين ضدّ الكفر وأهله في مرحلة نشر الإسلام في الأرض. وهكذا فإن أوّل ما يُعبّأ به الجندي هو السلاح النفسي، حيث إنّه يُملأ إيمانا واعتقادا بأنّه قادم على اللّه ومقبل على ساحته، وأنّه بهذا سينال رضاه وجنانه، ويُشبّع بفكرةِ أن هذه القضية هي قضيته، أو أنها لن تذهب سُدى.
ومعنى هذا أنّ اللّه تعالى سيضمن له الخلود في الدنيا والآخرة؛ لأن الخلود في الدنيا كان يلعب عندهم دورا كبيرا، وهنا نجد أن هذه التعبئة تقول له: إنك لن تفنى، وإنّما ستنتقل إلى حياة اُخرى. هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فإنك ستأخذ جزاءك في الحياة الآخرة عن كلّ قطرة دمٍ سفك منك. ومن ناحية ثالثة إنك ستخلق العزّة لاُمّتك والمجد لأبناء دينك، وستترك لهم إرثا كريما مخلّدا. فكلُّ هذا ستحصل عليه عن طريق الشهادة.
فالتعبئة النفسية تتجه دائما إلى ملء هذا الفرد، وتقول له: إنك ستأخذ هذه المزايا جميعها؛ وعليه فأقدم ولا تُحجم؛ لأن إقدامك متعيّن في مثل هذه الموارد.
يتبع…
_______________
(1) المؤمنون: 37.
(2) آل عمران: 169.
(3) النساء: 104.
(4) آل عمران: 140.