الهجرة إلى المدينة
خطبة الجمعة
مسجد الإمام الرضا×
12/3/1439هـ
الحمد لله بارئ النسمات، وخالق الكائنات، ومنير الظلمات، والصلاة والسلام على علل الموجودات والكائنات؛ نبي الهدى، ومصباح الدجى، المنصور المؤيد أبي القاسم محمد|، وآله الطاهرين، السادة المنتجبين. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فإن التقوى زاد الآخرة.
بعد بيعة العقبة تنبهت قريش للخطر الحتمي المحدق بها فطفقت تضايق الرسول| والمسلمين، فعزم| على الهجرة إلى المدينة المنورة، فوجّه المسلمين إلى ذلك سراً؛ هرباً من ظلم قريش وبطشها، ورغبة في تأسيس الدولة الإسلامية العادلة. وهنا ينزل عليه الوحي ليأمره قائلاً: «يا محمد، إن الله يأمرك أن تخرج من القرية الظالم أهلُها، فقد مات ناصرك»([1]).
فقال| لمناصريه: «إن الله قد جعل لكم إخواناً في الدين يعزونكم وينصرونكم، ويذودون عنكم بدافع الإيمان الصادق، وداراً تأمنون بها، وليكن خروجكم خفية؛ حتى لا تثور ثائرة قريش، وتحول بينكم وبين الخروج»([2]).
وبعد أن آخى بينهم، هاجر المسلمون ملبين نداء رسول الله|، وممتثلين لأمره. قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾([3]).
وعلى الرغم من تعدي قريش على بعضهم إلا إن الهجرة نجحت، فاستقبلهم الأنصار في يثرب، وأسكنوهم في بيوتهم، وفرشوا أرضها لإكرامهم، وقدموا لهم الطعام، وبذلوا لهم الأموال، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾([4]).
وقال قائلهم للنبي| حين قدم المدينة عليهم يصف كرمهم وجودهم: يا رسول الله، ما رأينا مثل قومٍ قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل، ولا أحسن بذلاً من كثير؛ لقد كفونا المؤونة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله([5]).
وهاجر المسلمون حتى لم يبقَ في مكة إلّا الرسول| وعلي× وقليل من المسجونين أو المرضى، وحينها اجتمعت قريش في دار الندوة، وقرروا قتل رسول الله| في داره، فجاء جبرئيل× وأخبره بالمكيدة، وقرأ عليه: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾([6])، فنادى علياً× وقال: «يا علي، إن قريشاً قد تآمروا على قتلي، وإن الله قد أمرني أن أهجر دار قومي، وأذهب إلى غار ثور، ومنه إلى يثرب دار السلام، وأمرني أن آمرك بثلاث:
الأولى: أن تنام على فراشي مساء هذه الليلة.
الثانية: أن تبقى بعدي بمكة لتؤدي عني الودائع والأمانات.
الثالثة: أن تخلفني في أهلي، فإذا أديت الأمانات والودائع إلى أهلها تحمل ابنتي فاطمة ومن معها من الفواطم إلى المدينة، فما أنت قائل وصانع؟».
فقال علي×: «يا رسول الله أو تسلم؟». قال: «نعم». قال: «فداك نفسي وروحي».
فلما خرج من بيته قرأ عليهم: ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾([7])، فلم يرَه أحد في خروجه، ولما هجموا على الدار، وجدوا علياً، فوثب في وجوههم وهو يقول: «ما شأنكم؟ وما تريدون؟». قالوا: أين محمد؟ قال: «أجعلتموني عليه رقيباً»([8]).
يقول×:
وقيت بنفسـي خير من وطئ الحصـى *** ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
محمدُ لما خاف أن يمكروا به *** فوقّاه ربي ذوالجلال من المكرِ
وَبِتُّ أُراعِيْهِم مَتَى ينشـرُونَني *** وَقَدْ وُطِّنت نَفْسـي عَلَى القَتْلِ والأسْر
وبات رسول الله في الغار آمناً *** هناك وفي حفظ الإله وفي سترِ([9])
يقول الكعبي:
ومواقف لك دون أحمد جاوزت *** بمقامك التعريف والتحـديدا
فعلى الفراش مبيت ليلك والعدا *** تهدي إليك بوارقا ورعودا
فرقـدت مثلوج الفؤاد كأنما *** يهدي القراعُ لسمعك التغريدا
فكفيت ليلته وقمت مفاديـاً *** بالنفـس لا فشلاً ولا رعديدا([10])
وخرجوا خلف الرسول| يبحثون عنه حتى وقفوا على الغار، فلم يروه، قال تعالى: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾([11]).
وخرج الرسول الأكرم| وهو يقول: «اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليّ، فأسكنّي أحب البلاد إليك».
فأنزل الله تعالى عليه: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾([12])…([13]). وتوجه نحو المدينة، ومشى ما يقارب خمسمئة كيلو، يمشي ليلاً ويستريح نهاراً.
__________________
([2]) انظر مناقب آل أبي طالب 1: 158.
([5]) تاريخ المدينة 2: 490. البداية والنهاية 3: 280.
([8]) بحار الأنوار 19: 50 / 8.
([9]) الأمالي (الطوسي): 469 / 1031.
([13]) انظر روضة الواعظين: 406. مستدرك وسائل الشيعة 9: 345 / 11046. انظر تفسير السمعاني 4: 162. القصص: 85.