كشكول الوائلي _ 207
البعد الرابع: التعتيم على ذكرى استشهاده
وهذا البعد قد اتّخذ عدة أشكال وأطوار، ذلك أنّ السلطات الحاكمة حينما رأت أن هذه الفرية لم تنطلِ على الناس ـ حيث إنّهم راحوا يتتبّعون سيرة الحسين عليه السلام، وأثرها في واقعهم، وعرفوا أنه خرج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولتجسيد مبادئ الإسلام اتجهوا إلى أبعاد اُخرى منها التمويه على ذكراه ليخرجوه من الأفكار ومن دنيا الواقع وليطردوه من أذهان الناس. وأرادوا لذكراه أن تمرّ بشكل بارد دون أن تشوبها شائبة الحركة والحرارة الثورية أو حرارة الحمية والانفعال من أجل علم من أعلام المسلمين. وقد حاولوا فعل ذلك عبر عدّة أشكال منها:
الأوّل: أنّ شعار الثورات المستوحاة منها فيه استعانة بغير اللّه
وهكذا أخذوا يشكلون عل نوع الشعارات، فشعار «ياحسين» فيه استعانة بغير اللّه تعالى من وجهة نظرهم، وهو شرك.
معنى الاستعانة ومشروعيّتها
لكن لنا أن نسأل: ما معنى الاستعانة؟ وهل نحن نستعين بالحسين عليه السلام بما أنه لحم ودم؟ إننا نقف في المكان الذي أراد اللّه عزّوجلّ له أن يعظّم، ألم يأمرنا اللّه تعالى بتعظيم الشعائر(1)؟ وألم يكن من جملة شعائر اللّه تكريم الشهيد والإشادة بدمه؟ إننا حينما نقف على ضريح الإمام الحسين عليه السلام فإنّما نقف على مربض من مرابض الشهادة المهمّة في تاريخ المسلمين، ونستوحي من اللّه رحمته، ونقول: يارب بحق هذا الدم الطاهر، وبحقّ هذا الموقف الكريم للذي ترسّم خطّ نبيّك محمد صلى الله عليه وآله واقتفى خطاه الكريمة، ارحمني ولا تحرمني من رحمتك. فأين هي الاستعانة بغير اللّه تعالى؟
ثم إنّ هؤلاء قد كرّروا هذه النغمة على مدى ألف وأربعمئة سنة، ونحن أجبناهم عليها بقدر أسئلتهم بالدليل القاطع والبرهان الساطع، أفلا يكفي هذا؟ وأنا أعرف أنّ هذه النغمة لن تتوقف، وهذه التهمة لن تنتهي لسبب بسيط هو أنّ هناك أسواق مفتوحة لهذه البضاعة البائرة لتي تدعو إلى إثارة النعرات وبثّ التفرقة.
الثاني: ادّعاء استحباب صوم يوم عاشوراء
ومن هذه البضائع ما يروّج له من ندب صوم يوم عاشوراء، ويروون في ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وآله دخل المدينة فوجد أهلها يصومون يوم عاشوراء، فقال صلى الله عليه وآله: «ما هذا من الصوم؟». قالوا: هذا اليوم الذي نجّى اللّه فيه نبيّه موسى بن عمران عليه السلام، وبني إسرائيل من الغرق، وغرق فيه فرعون، فصامه موسى عليه السلام شكرا. فقال صلى الله عليه وآله: «أنا أحقّ بموسى، وأحقّ بصوم هذا اليوم»(2).
ثم قالوا بعد ذلك: إن هذا الصوم نسخ بصوم شهر رمضان(3).
وأقول: إذا كان هذا الصوم قد نسخ كما تروون، فلماذا تدعون له؟
فإن أجابوا بأنهم يدعون له لا على نحو الوجوب بل على نحو الاستحباب.
فنقول: نحن لا نقول بأنّ الصوم أكثر من أن يكون عبادة، فإذا كان الغرض الاستحباب والتقرّب إلى اللّه تعالى فكل يوم هو للّه، فلماذا الإصرار على هذا اليوم؟
فالاستحباب حينئذٍ بعد نسخ الصوم هذا بصوم شهر رمضان لا وجه لتخصيصه بهذا اليوم وإن كان قد نجّى اللّه تعالى فيه نبيّه موسى بن عمران عليه السلام. أمّا إذا كان صيامه بعنوان التشفّي من الإمام الحسين عليه السلام، أو بأي صورة تعطي هذا المعنى فهو حرام بلا كلام؛ لأ نّه حينئذٍ سيؤول إلى كونه نصبا، وإذا وصل إلى كونه نصبا أصبح إنكارا لضرورة من ضرورات الدين؛ لأن الله تعالى يقول: قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنَا(4)، ومادام أمر اللّه متوجّها إلينا بهذه المودّة، وما دام من مظاهر مودّتهم هو الحزن لحزنهم(5) فالواجب إذن ألا يُظهر أحد التشفّي بهم، بل لا يضمره أصلاً.
يتبع…
___________________
(1) في قوله عزّ من قائل: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ الحجّ: 32.
(2) مسند أحمد 2: 359، باختلاف.
(3) المجموع شرح المهذّب 6: 301، 383 – 384، وقد نقل عن الماوردي عليه الإجماع.
(4) الشورى: 23.
(5) قال الصادق عليه السلام : «رحم الله شيعتنا؛ خلقوا من فاضل طينتنا، وعجنوا بماء ولايتنا، يحزنون لحزننا ويفرحون لفرحنا». شجرة طوبى 1: 3 – 6.
وهو أعم من الفرح والحزن المألوفين عندنا؛ لأنهم عليهم السلام يفرحهم أن يطاع اللّه تعالى، ويحزنهم أن يعصى. وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام : «كل يوم لا يعصى اللّه فيه فهو عيد». روضة الواعظين: 354، شرح نهج البلاغة 20: 73. أي يوم فرح. فهو صلى الله عليه وآله وسلم وآله الأطهار عليهم السلام يفرحون إن اُطيع اللّه تعالى ويحزنون إن عصي.