كشكول الوائلي _ 204
في تحقيق معنى العرش وصفته
ثم قالت الآية الكريمة: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ، والمقصود بالعرش: مطلق القدرة، أي دائرة الأمر والنهي. فمن باب تقريب المعنى إلى الحسّ سمي الشيء المعنوي باسم الشيء المادي، وإلاّ فإن العرش ليس بجسم أبدا. فهو تعالى يريد أن يقرب الشيء المعنوي إلى الذهن كما قرّب نوره إلى الذهن بالشيء المعنوي، فقال عزّ من قائل: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ(1). فالعرش ليس مكانا يجلس عليه اللّه تعالى كما يتصوره البعض، وهؤلاء هم المجسّمة الذين يقولون: إنّ اللّه عزّ وجلّ عنده عرش ويُعطونه حجما معينا، بل إنه تعالى منزه عن الجسمية.
فقوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ يعني أنه تعالى ذو مكانة مجيدة. والمجيد لفظ يتضمن صفتين هما: القوي المترفّع عن الدنايا. وقد مرّ بنا سابقا أنّ عروش الأرض ضعيفة متزلزلة سرعان ما تتهاوى وتسقط لسبب من الأسباب، فكلّ عرش من الممكن أن يهتز ويقتلع من جذوره خلال أقل من ساعة كما حصل للمتوكّل مع الأتراك. وهناك تجارب كثيرة في حياتنا في هذا المجال تُثبت صحة ما قلنا، وهذه التجارب تنمُّ عن أنّ هذه العروش متزلزلة لأ نّها عرضة للخطر في أية لحظة، كما أنّ هذه العروش الأرضية ليست عروشا كريمة؛ لأ نّها لا تترفع عن الدنايا والآثام، فتجد عرشا يطارد امرأة ليقتلها، فهل هذا عرش كريم؟ فحينما لاحق عبد الله بن الزبير زوجتي المختار وقتل إحداهما لأنها رفضت أن تتبرّأ من المختار مع أنها امرأة ضعيفة(2) هل من الممكن أن يكون ذا عرش كريم؟ وهل يوصف بذلك بسر بن أرطاة وهو الذي حينما مرّ ببني كنانة، وفيهم ابنا عبيد الله بن العباس واُمهما، فلمّا انتهى بسر إليهم طلبهما، فدخل رجل من بني كنانة كان أبوهما أوصاه بهما، فأخذ السيف من بيته وخرج، فقال له بسر: ثكلتك اُمّك! والله ما كنا نريد قتلك، فلم عرّضت نفسك للقتل؟ فقال: اُقتل دون جاري أعذر لي عند الله والناس. ثم شد على أصحاب بسر بالسيف حاسرا وهو يرتجز:
آليت لا يمنع حافات الدارْ *** ولا يموت مصلتا دون الجارْ
إلاّ فتـى أروع غيـر غـدّارْ
فضارب بسيفه حتى قتل، ثم قدّم الغلامان فقتلا، فخرج نسوة من بني كنانة، فقالت امرأة منهن: هذه الرجال يقتلها، فما بال الولدان؟ والله ما كانوا يُقتلون في جاهلية ولا إسلام، والله إن سلطانا لا يشتدّ إلاّ بقتل الطفل الضعيف والشيخ الكبير ورفع الرحمة، وقطع الأرحام لسلطان سوء. فقال بسر: والله لهممت ان أضع فيكن السيف. فقالت: والله، إنه لأحبّ إلي إن فعلت(3).
فالعرش هو الذي يجب أن يكون في القلوب وليس على الأخشاب؛ لأن العروش التي تقوم على الظلم والاضطهاد والإبادة ليست عروشا، وأصحابها ليسوا بشرا وإنما هم وحوش. فالعرش المترفع عن هذه المظاهر هو الذي يتصف بكونه كلّه رحمةً وعطاء، فهذا هو العرش الذي يدوم ويبقى مخلّدا في القلوب لا يزول عنها ولا يحول. وهذا ما تؤيده شواهد التاريخ؛ حيث نلاحظ أن العروش الدنيوية القائمة على الحقد والقتل والظلم كلّها قد ذهبت ولم يعُد يذكرها ذاكر. فقصرا المتوكل في سامراء: الجوسق والجعفري بما كانا عليه من فخامةٍ وعظمة بناء قد ذهبا، أما خان الصعاليك الذي كان يقابلهما، وكان يسكن فيه الإمام الهادي عليه السلام فهو يناطح السماء علوّا وبريقا، يقول أحد الاُدباء:
أخانَ الصعاليكِ هل مرّت الـ *** ـتعابيرُ في تربِك المقفرِ
لتنبيك أن ديارَ الطغا *** ةِ من جوسقٍ ثَم أو جعفرِ
تهاوت رمادا وظلّ الخلودُ *** ينامُ على رملِكَ الأسمرِ
فالحقيقة إذن أنّ العرش المجيد هو الذي يقوم في القلوب والأنفس وتبقى آثاره المادية في الدنيا تبعا لقيامه في القلوب. فالقرآن الكريم ينعت اللّه تعالى بأ نّه ذو مكانة قوية ممتنعة على الدنايا.
يتبع…
________________
(1) النور: 35. وقال المعري:
يروى أن أبا تمام الطائي أنشد أحمد بن المعتصم قصيدته السينية التي يمدحه فيها، فلما بلغ إلى قوله:
في حلم أحنف في شجاعة عامرٍ *** في جود حاتم في ذكاء إياسِ
قال له الكندي وكان حاضرا: ما صنعت شيئا. قال: وكيف؟ قال: لأن شعراء دهرنا قد تجاوزوا بالممدوح من كان قبله، ألا ترى إلي قول أبي العكوك في أبي دلف:
رجل أبرّ علي شجاعة عامرٍ *** بأسا وغيّر في محيّا حاتمِ
فأطرق الطائي ثم رفع رأسه وأنشد:
لا تنكروا ضربي له من دونه *** مثلاً شرودا في الندى والباسِ
فالله قد ضرب الأقلّ لنوره *** مثلاً من المشكاة والنبراسِ
الأمالي ( المرتضى ) 1: 210 – 209.
(2) وهما اُمّ ثابت بنت سمرة بن جندب الفزاريّة وعمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاريّة، حيث إن مصعب بن الزبير كتب إلى أخيه عبد اللّه بخبرهما، فكتب إليه: إن تبرّأتا من زوجهما، وإلاّ فاقتلهما. فعرضهما مصعب على السيف فرجعت ابنة سمرة وتبرّأت منه، وقالت: لو دعوتموني إلى الكفر مع السيف لأقررت. وأبت ابنة النعمان وقالت: شهادة اُرزقها، ثمّ أتركها؟ يا رب، إنها موتة ثمّ الجنّة والقدوم على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وأهل بيته الطاهرين. ثمّ قالت: اللهم اشهد أني متّبعة لنبيّك وابن بنت نبيّك وأهل بيته وشيعته. فأمر بها مصعب فاُخرجت إلى ما بين الكوفة والحيرة، وقتلت صبرا. وفي هذا يقول عمر بن أبي ربيعة:
إن من أعجب العجائب عندي *** قتل بيضاء حرّة عطبولِ
قتلوها ظلما على غير جرم *** إن للّه درّها من قتيلِ
كُتب القتل والقتال علينا *** وعلى المحصنات جرّ الذيولِ
تاريخ الطبري 3: 451 ـ 494، الكامل في التاريخ 4: 211 ـ 278، البداية والنهاية 8: 289 ـ 313.
(3) شرح نهج البلاغة 2: 14.