كشكول الوائلي _ 202
أمير المؤمنين عليه السلام وأسرى الجمل
أما الرواية الثانية فهي أنه بعد انتهاء معركة الجمل التي تمخّضت عن مأساة كبيرة وعن جبال من الجثث والأشلاء؛ حيث راح ضحيّتها سبعة وثلاثون ألف مقاتل، وهي فتنة كانت اليد الطولى والأساسيّة فيها لعبد الله بن الزبير ومروان والوليد بن عقبة بن أبي معيط، الذين هيّؤوا لها عدّتها، وأبرزوا لأجلها حليلة رسول الله صلى الله عليه وآله. وهنا نلمس مظاهر النبل عند أمير المؤمنين عليه السلام، وأي نبل هو؟ إنه النبل الذي يدفع صاحبه لأن يصفح عن مثيري الفتنة وقائدة الجيش ثم يأمر بتهيئة أربعين خادمة يخدمنها. لقد كانت دماء الضحايا تسيل أنهارا بسبب هذه الحرب ومثيريها، لكن خلق أمير المؤمنين عليه السلام ونفسه الكبيرة التي لا يتّسع لحجمها الكون كلّه دفعاه إلى أن يجيء ليتفقّد عائشة؛ لأ نّها عرض النبي صلى الله عليه وآله(1).
والغريب أنه عليه السلام مع شدّة عنايته بهذه المرأة وشدّة صيانته حياتها وشرفها، والتفاته إلى مكانتها نجد من الألسن والأقلام المزيّفة والحاقدة وغير النظيفة من يقول: كيف نلتقي مع هؤلاء الذين يرمون اُم المؤمنين بالزنا؟ نستجير باللّه من هذا الكلام وهذه التهمة لنا ولها، وأنا لا أدري هل إن هذا الذي يطلق مثل هذا الافتراءات والأقاويل عنده ذرّة من ضمير أو ذمّة تمنعه من إطلاق مثل هذا الكلام؟ هل يعرفون تاريخنا وتاريخهم؟ لينظروا إلى تفاسيرنا مثل (مجمع البيان)(2) للطوسي، و (الكاشف)(3) لمغنية و (الميزان)(4) للطباطبائي (قدس اللّه سرّهم) وغيرها من كتب التفسير(5) أو الحديث(6) مما يبلغ العشرات بل المئات، وعلى العموم فإنه حتى من يرى من علمائنا أن آية الإفك ـ وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمؤمناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ النور: 22 ـ ليست في عائشة خاصّة، وأنها في نساء رسولنا الأكرم صلى الله عليه وآله عامّة، فإنهم يدخلون عائشة ضمن المجموع، يقول الشيخ الطوسي: «قال سعيد بن جبير: هذه الآية نزلت في عائشة. وقال الضحاك في نساء المؤمنين. وهو الأولى؛ لأنه أعمّ فائدة وإن كان يجوز أن يكون سبب نزولها في عائشة، فلا تقصر الآية على سببها». التبيان 7: 408. ويلاحظ هنا أمران، هما:
الأول قوله: «وهو الأولى؛ لأنه أعمّ فائدة». وهذا معناه تنزيه لكل نساء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله.
الثاني قوله: «وإن كان يجوز أن يكون سبب نزولها في عائشة»، وهو قول صريح بعدم نفيه عنها.
ومثله قول القطب الراوندي في فقه القرآن 2: 388.
فهل فيها من هذا الادّعاء الجائر شيء؟ بل لينظروا كيف يدافعون عن عائشة دفاع المستميت حينما يتناولون حديث الإفك، ويستدلّون على طهارتها هنا بكلام أمير المؤمنين عليه السلام «إن الله طهّر نعلك، فكيف لاُيطهّر عرضك؟».
وبقول عبد اللّه بن عباس «ما زنت امرأة نبيّ قط »(7). والمسألة موضع إجماع عندنا، وهناك إصرار من أئمّة فكرنا وقادتنا على تطهير ساحة بيت النبي صلى الله عليه وآله من كل دنس ورجس. فصحيح أننا لا نرضى بخروج عائشة على إمام زمانها؛ لقوله صلى الله عليه وآله: لأمير المؤمنين عليه السلام: «حربك حربي وسلمك سلمي»(8)، و«من أحبّك ختم اللّه له بالأمن والإيمان، ومن أبغضك فليس له نصيب من الإسلام»(9). لكننا لا نرميها بما أمر اللّه تعالى بحفظه منها. ثم إننا لسنا بدعا بين المسلمين في مسألة إدانة من يخرج على إمام زمانه؛ فلقد أدان المسلمون أهل الردّة الذين خرجوا على أبي بكر، وأدانوا من خرجوا على غيره(10)، وهذا الشيء عين ذاك، وحكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد.
وقد يقول قائل: إنها تابت وندمت. فنقول: هذا أمر حسن، لكننا لا نوصل الأمر إلى اتّهام عرض النبي صلى الله عليه وآله (حاشا رسول اللّه صلى الله عليه وآله من ذلك).
وهذه المسألة مفروغ منها عندنا، فعرض النبي صلى الله عليه وآله مصان، وشرفه محفوظ، ولا يمكن أن يبتلي اللّه سبحانه وتعالى نبيا من أنبيائه بمثل هذا، فكيف بخاتم الأنبياء وسيّدهم وسيّد الكائنات كلّها وسيّد البيت الطاهر وموضع عناية القرآن الكريم والسماء؟
يروون عن أحد التفاسير عندنا أنّ القائم عليه السلام إذا خرج يجلد عائشة ويقيم عليها الحدّ، لكن ما اسم هذا التفسير؟ ومن هو صاحبه؟ لا أحد يدري. إن هذا التفسير الذي يُنقل فيه أن يفسّر فيه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا(11) بما يروى عن أبي عبد الله عليه عليه السلام من أن أمير المؤمنين عليه السلام البعوضة وما فوقها رسول الله صلى الله عليه وآله نضرب به عرض الجدار وإن ثبت أنه لعلي بن إبراهيم(12)، لكن هل هو حقّا له؟
فهذا عرض رسول اللّه صلى الله عليه وآله، وبيت النبوّة الذي نكنّ له في قلوبنا ومشاعرنا أسمى حب واحترام وننزّهه عن أن تناله الألسن أو تلوكه، ونربأ بألسنتنا أن نخوض فيما نهى اللّه عن الخوض فيه. فمن يروّج لهذا الكلام (أنّ الشيعة يتّهمون أم المؤمنين عائشة بالزنا ويرمونها به) لهو مهرّج، وكلامه كلام معيب، فيجب أن تغلق أسواق هذه البضاعة الشنيعة، وينبغي عدم لوك عرض النبي صلى الله عليه وآله بهذا التهريج الشائن، بل إن الذي يروّج له هو من يريد أن يسيء إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله في عرضه.
يتبع…
______________
(1) تاريخ الطبري 5: 204 ـ 205، الفتوح (ابن أعثم) 2: 341، الفتنة ووقعة الجمل: 182.
(2) مجمع البيان 4: 151.
(3) الكاشف 5: 409.
(4) الميزان 15: 96.
(5) التبيان 7: 408، فقه القرآن 2: 388.
(6) بحار الأنوار 20: 315، وإن كان ذكر بعد ذلك أن الأقرب أنها في ماريّة القبطيّة زوجة رسولنا الأكرم صلى الله عليه وآله.
(7) التبيان 5: 495، مجمع البيان 5: 285.
(8) شرح نهج البلاغة 18: 24، المناقب (الخوارزمي): 199، وقال له بهذا المعنى أحاديث كثيرة، انظر الحاوي للفتاوي 2: 44.
(9) مسند أبي يعلى 1: 403 / 528، المعجم الكبير 12: 321، كنز العمال 11: 611 / 32955، 13: 159 / 36491، وقال: قال البوصيري: رواته ثقات.
(10) كما فعل البعض حيث خطّأ من خرج على عثمان، انظر محاضرة ( الإخاء ) ج 2 من موسوعة محاضرات الوائلي، وكما خطّأ ابنُ العربيالإمام الحسين عليه السلام في خروجه على يزيد، انظر فيض القدير شرح الجامع الصغير 1: 265 ـ 266، 5: 313.
(11) البقرة: 26.
(12) تفسير القمي 1: 34 – 35.