كشكول الوائلي _ 203
رجـع
على أية حال، فالإمام أمير المؤمنين عليه السلام لم يشأ أن ينام دون أن يتفقّد حال السيدة عائشة؛ لأنه يرى أنّها عرض رسول الله صلى الله عليه وآله مع ما كان لها من مواقف معه تمزّق أعصاب الإنسان حتى إذا كان في غاية الصبر، سيّما شنّها الحرب عليه؛ لما اُريق من دماء، واُزهق من أرواح على غير سبب سوى رغبة عند البعض في إهاجة الفتنة وإثارتها عليه عليه السلام.
المهم أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام حينما دخل البصرة بعد واقعة الجمل وقفت له امرأة بباب الدار وقالت له: يا قاتل الأحبّة، أيتمت ولدنا أيتم اللّه ولدك. ولو أننا وضعنا مكان أمير المؤمنين عليه السلام أحد خلفاء بني اُميّة أو بني العبّاس كعبد الملك بن مروان والحجّاج وأمثالهما، فماذا يمكن أن يكون ردّة فعله حينها؟ أليس الحجّاج هو الذي خطب الناس ذات مرة حتى غابت الشمس، فقام له أحدهم وهو يخطب وقال له: أصلحك اللّه، الوقت لا ينتظرك، والربّ لا يعذرك. فقال له الحجّاج: ما تقوله صحيح، لكن مثلك لا يأمر مثلي. ثم أمر به فسجن(1).
أمّا علي بن أبي طالب عليه السلام، فقد كان جوابه أن قال لها: «لو كنت قاتل الأحبّة لقتلت من في هذه الحجرة»(2)؟ وكان فيها مروان بن الحكم، وعبد اللّه بن الزبير، والوليد بن عقبة بن أبي معيط.
فهذه هي النفس الكبيرة التي تسمو على كل ما هو حطام دنيوي زائل(3).
كان عليه السلام يعرف أنّ العفو سيخلّده أكثر من الانتقام، وإلاّ فإنّه عليه السلام كان قادرا على أن ينتقم من كل من قام بالحرب ضدّه(4). وهكذا فإنّ التاريخ الآن حينما يمرّ بموقف من المواقف الكريمة والنبيلة لهذا الرجل السيد النبيل فإنّه ينحني له إجلالاً وإكراما وإكبارا، وهو يفعل هذا مع كل موقف يمرّ به لأمير المؤمنين عليه السلام :
أَ أَبا الحُسينِ وتِلكَ أروعُ كنيةٍ *** وكِلاكُما بالرَّائعات قَمِينُ
لكَ في خَيال الدَّهرِ أيُّ مَلامحٍ *** تَروي السَّنا ويُتَرجِمُ النَّسرينُ
في الصبح أنت المُستَحِمُّ منَ اللَّظى *** واللَّيل في المحرابِ أنتَ أنينُ
تكسو وأنتَ قطيفةٌ مَرقوعةٌ *** وتَموتُ من جوعٍ وأنت بَطينُ
آلاؤك البيضاءُ طوَّقتِ الدُّنَا *** فَلها على ذِممِ الأَنامِ دُيونُ
وترقّ حتى قيل فيك دعابة *** وتفحّ حتى يفزع التنّينُ
خلقٌ أقلُّ نعوتِه وصفاتِه *** أن الجلالَ بمثلِه مقرونُ
ما عدت ألحو عاشقيك بما أتَوا *** وصفاتُك الغَرَّاءُ حورٌ عينُ(5)
يتبع…
________________
(1) البيان والتبيين 1: 360، المستطرف من كل فن مستظرف 2: 16، محاضرات الاُدباء 1: 239.
(2) دعائم الإسلام 1: 394، مناقب آل أبي طالب 2: 98، الجمل (ضامر بن شدقم): 147، تاريخ الطبري 3: 543، شرح نهج البلاغة 15: 105.
(3) وإن كان كرسي حكم ودست رئاسة، أليس هو عليه السلام القائل: « لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألاّ يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ». نهج البلاغة / الخطبة: 3 المعروفة بالشقشقية.
وقال لابن عبّاس: «والله لهما أحبّ إليّ من أمركم هذا إلاّ أن اُقيم حقّا أو أدفع باطلاً» يعني نعليه. الإرشاد 1: 247، الجمل: 113.
(4) وإلاّ فلماذا ترفّع بسيفه أن ينال بسر بن أرطاة وعمرو بن العاص بعد أن كشفا عن عورتيهما خوفا من سيفه القاضم الحاطم؟ يقول ابن الأثير وابن منظور: « كان علي بن أبي طالب عليه السلام إذا نزل إلى الحرب تَنادى الجيش وصاحوا: احذروا الحطم، احذروا القضم ». النهاية في غريب الحديث والأثر 4: 78 ـ قضم، لسان العرب 12: 488 ـ قضم.
(5) ديوان المحاضر 1: 19.