كشكول الوائلي _ 198
مواقف كريمة من الموالي وغيرهم
طلبه من غلامه أن يقتصّ منه
لقد كان عليه السلام يعامل الرقيق على أنّهم بشر لهم كامل حقوقهم كما أمر الإسلام والقرآن بذلك، ومن ذلك أنه عليه السلام غضب في يوم من الأيام على غلام له كان قد طلب منه أن يقوم على ضيعة تخصّه، إذ أنه عليه السلام دخلها يوما فوجد فيها ضَياعا كثيرا، ورأى أن الزرع قد فسد، فصاح به: «لم تفعل هذا؟ إنك تأخذ جلّ وارد هذه الضيعة، فلم لا تعتني بها؟». فسكت الغلام، فقرعه الإمام بسوط كان بيده،ثم ندم. فلما رجع إلى الدار ألقى ملابسه وأظهر موضع ضرب السوط من الغلام ثم بعث وراءه. فلما جاء ورأى الإمام بهذه الهيئة اضطرب أكثر وخاف، وظن أن الإمام يريد أن يعاقبه، فقال له الإمام: «هوّن عليك، وخذ هذا السوط واضربني كما ضربتك». فقال: معاذ اللّه. قال: «بل افعل، إني اُريد هذا». قال: معاذ اللّه، إن يدي لا تطاوعني على ذلك. فقال الإمام: «أما إذا أبيت فالضيعة صدقة عليك»(1).
فهذا اللون من الخلق العالي لم يقتصر أثره على النفس فقط، وإنما يتعدّاه إلى مرحلة الإيحاء للآخرين بأن يعاملوا غلمانهم أو فتيانهم على هذا المثال الذي اختاره هو عليه السلام. فهو عليه السلام يريد أن يقول لهم: إنّ هذا الغلام إنسان كما أنّ مالكه إنسان من غير فرق، وله كرامة وعزّة كما لغيره، فإذا ما ملّك اللّه أحدا إيّاه فيجب أن يشكر اللّه تعالى على هذا التمليك الذي كان من الممكن أن يكون بالعكس، أي أن يجعل السيد خادما والخادم سيدا.
إعتاقه غلمانه ليلة كل عيد فطر
كان الإمام السجاد عليه السلام يشتري العبيد والجواري، فإذا جاءت ليلة العيد جمعهم وقال لهم: ارفعوا أيديكم و«قولوا: اللهمّ اعفُ عن علي بن الحسين كما عفا عنّا». فيعتقهم ويعطيهم شيئا من المال ويأمرهم بالعمل، ويقول لمن يعطيه: «استعن بها على دهرك، أصلح اللّه لك أمرك فيها»(2).
فانظر إلى انتصاره (سلام اللّه عليه) على النفس، وكيف أنه بلغ القمّة في سلوكه هذا. فالإنسان حقّا يبلغ قمة الأخلاق حينما يقهر نفسه وليستثمر طاقاتها لوجه اللّه تعالى، وفي خدمة مخلوقاته.
مواقفه من قتلة أبيه السبط الشهيد عليه السلام
وهذه القمّة في الخلق امتدّت لتشمل حتى قتلة أبيه الحسين السبط عليه السلام، فحين ثار الناس في واقعة الحرّة في المدينة عزم أهل المدينة على اجتثاث الاُمويين منها وقتلهم كلّهم، فقد كانت النفوس مشحونة ضدّهم، وهذا أحد الشعراء يخاطب الأمويين حينما أخذوا البيعة ليزيد:
ولو جاؤوا برملة أو بهندٍ *** نبايعها أمير المؤمنينا
إذا ما مات كسرى قام كسرى *** نعدُّ ثلاثة متناسقينا
فوا لهفا لوَ ان لنا ضيوفا *** ولكن لا نعود كما عُلينا
إذن لضُربتُمُ حتى تعودوا *** بمكّة تلعقون بها السفينا
شربنا الغيظ حتى لو سقينا *** دماء بني اُميّة ما روينا
لقد ضاعت رعيّتكم وأنتم *** تصيدون الأرانب غافلينا(3)
وهكذا كانت النفوس مشحونة تلتهب، وكان هذا الشاعر يتكلّم بلسان أغلب المسلمين. على أية حال لقد عزم أهل المدينة على استئصال شأفة الاُمويين في المدينة المنوّرة، فمن الذي آواهم ودفع القتل عنهم؟ ومن الذي فكروا هم في الالتجاء إليه من شدّة خوفهم؟ إنّه زينالعابدين عليه السلام الذي جند أتباعه وكل الهاشميّين ـ وكان هو عليه السلام في طليعتهم ـ لحماية عوائل بني اُمية كلها، وكانوا بالمئات. ولم يقتصر الأمر على توفير الحماية لهم، بل تعدّاه إلى إيصال الماء والطعام لهم، وقضاء كل حوائجهم حتى انتهت الثورة(4).
وهذا اللون من الخلق النبيل غريب حقّا، ولا يمكن أن يوجد في مكان آخر أو عند شخص غيره، لأ نّه من بيت تميّز بهذا الأدب السامي والخلق الرفيع.. من بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل.. من بيت حمل شعار القرآن: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ(5).
يتبع…
_____________________
(1) شرح الأخبار 3: 262 ـ 263 / 1166، مناقب آل أبي طالب 3: 297.
(2) الصحيفة الكاملة السجّاديّة / دعاؤه عليه السلام في آخر ليلة من شهر رمضان، الإقبال بالأعمال الحسنة 1: 444، بحار الأنوار 46: 104، 95: 187.
(3) الأبيات لعبد الله بن همام، وقيل: حمام، ابن نبيشة بن رياح، الملقّب بالعطّار؛ لجودة شعره. تاريخ مدينة دمشق 33: 352 ـ 353، وفيه: لبايعنا أميرة مؤمنينا، وقد ذكر بيتين منها فقط، وكذلك ذكرهما في البداية والنهاية 8: 362.
(4) تاريخ الطبري 4: 373، الكامل في التاريخ 34: 456.
(5) الأعراف: 199.