كشكول الوائلي _ 147

img

جور بعض من يدّعي الإسلام

ثم قالت الآية الكريمة بعد ذلك: وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ، أي أنها تقول للنبي صلى الله عليه وآله: لا تدعُ عليهم؛ لأن رسالتك رسالة رحمة، وأنت رحمة للعالمين(1)، كما أن عندك من الخواصّ ـ مع أنك بشر ـ ما يمنعك من أن يضيق صدرك عليهم، أو تطلب من اللّه‏ أن يؤدّبهم بالعذاب. ثم إنك بما اُتيت من دواعي الرحمة، وبما وهبك الله من ألوان العطف والشفقة تستطيع أن تتجاوز عن هؤلاء؛ ذلك أن الإنسان ضعيف حتّى لو تظاهر بالقوّة والعجرفة، إذ أنه تؤثّر عليه طبيعة الحياة ومشاكلها كافّة.

والإنسان عندما يولد تمنحه البيئة كلّ خواصّها، فالذي يولد في الجزيرة العربية لا نتوقّع منه أن يتخلّق بأخلاق الدول الأوروپّية؛ لأن الذي يعيش في أوروپّا له قيمه الخاصّة، فليس عنده مثلاً حساسية تجاه أن تراقص اُمّه رجلاً. ولذا فإن علينا حينما نريد أن نعالج قضية ما أن نأخذ بنظر الاعتبار الظروف الموضوعيّة التي تكتنف تلك القضية، وعليه فالذي يسرق في عام المجاعة ليأكل لا تقطع يده؛ لأن الظرف أجبره على السرقة. وهكذا نجد أن بعض الناس عاشوا في ظروف أجبرتهم على نمط معيّن من السلوك، وألجأتهم إليه إلجاء، فالذي ينبغي ألاّ نحكم عليهم هم ومحترفي الجريمة على حد سواء.

ثم إن على الإنسان أن يسأل نفسه حول ما إذا كان غيره قد نشأ في ظروف غير ظروفه، فلماذا يحكم عليه اعتباطا ودون تروٍّ بالكفر والضلال؟

إن الذي يجب علينا هنا أن نأخذ بنظر الاعتبار ضعف الإنسان، فالاُطر الاجتماعية هي التي تملي عليه مستلزماته أحيانا وتصنعه، ومن هذا على سبيل المثال ما تفرضه بعض العادات والنظم القبلية عندنا؛ فعندما يريد الرجل أن يتزوّج فإنه يولم الولائم مهما كلّفه ذلك، وإن لم يجد يعمد إلى بيع كل شيء عنده من أجل هذا وإن أثّر على مستوى معيشته مستقبلاً. فهذا إطار اجتماعي، والإنسان ضعيف أمام الاُطر الاجتماعية كافّة، ولذا فإن الواجب أن نأتي إليه من هذا المنطلق لتهذيبه دون أن نحكم عليه بأحكام قاسية.

فالآية تقول: وَلاَ تَسْتَعْجِلْ؛ فهؤلاء ضعفاء أمام الإطار الاجتماعي، ولذا فإن النبي صلى الله عليه وآله كان كلّما اشتدّ عليه أذاهم قال: « اللهم اهدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون »(2). وفي أحد الأيام أخرجوه من مكّة بعد أن رموه بالحجارة من كلّ جانب إلى أن وصل للطائف، وكان لعتبة وشيبة بستان يصطافان فيه، فرأيا النبي صلى الله عليه وآله، فالتفتا إلى عبد لهم اسمه « عداس »، وقالا له: اجنِ من هذه الكرمة عنبا وأعطه إيّاه ـ وأشارا إليه صلى الله عليه وآله ـ وابتعد عنه؛ لئلاّ يسحرك بكلامه. فجاء « عداس » بالعنب والماء، وأراد أن يضعه بين يدي الرسول صلى الله عليه وآله وينصرف، فرفع إليه النبي صلى الله عليه وآله رأسه وقال: « عُداس هذا؟ ». قال: فداؤك عداس، مامعرفتك باسمي وقد سمتني اُمي به؟ قال صلى الله عليه وآله: « أوليس قد أسمتك اُمّك بهذا الاسم عندما وضعتك؛ لأنك كنت ثقيلاً في بطنها؟ ». قال: بأبي أنت واُمي، نعم واللّه‏ هكذا أخبرتني اُمّي، فمن الذي أخبرك بهذا؟ قال صلى الله عليه وآله: « أولست أنت من قرية العبد الصالح يونس بن متي من نينوى بالموصل؟ ». قال: وما أدراك بهذا؟ قال صلى الله عليه وآله: « ذاك نبي وأنا نبي ». فقال عداس: واللّه إني لأرى عليك سيماء النبوّة. ثم انحنى على أقدامه يقبّلهما، وكان عتبة وشيبة يعاينان ما يفعل، فقالا: قد أفسد علينا غلامنا(3).

ثم رأى النبي صلى الله عليه وآله أن جسمه يسيل دما، وأن ملابسه قد تلطّخت من دمه الشريف، فأخذ يمسح الدماء عن جسده، ثم رمق السماء بطرفه وقال: « اللهم رفقا بهم؛ إنهم جهلاء لا يعلمون من أنا ». فهذا هو الخلق العالي، وهو حاصل نتيجة معرفته صلى الله عليه وآله بأن هؤلاء ضعفاء أمام الاُطر الاجتماعية، فهم لا يعرفون النبي صلى الله عليه وآله.

ولا زال البعض إلى الآن يسأل عن اُمور غاية في البداهة، وكأنه خارج الاُطر الاجتماعية، وعلماء الاجتماع يعرفون التقاليد بقولهم: التقليد هو قوة الإجبار، أي أنه يجبر الإنسان على الكون في وضع معيّن؛ فلذا قالت الآية الكريمة: وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ؛ فإنهم إن كانوا يصرّون على الخطيئة فإن اللّه‏ سينتقم منهم، وإذا كانوا غير مصرّين عليها ـ وهذا محتمل ـ فمن الممكن أن يهتدوا؛ فلا تستعجل بالدعاء عليهم.

يتبع…

_________________________

(1) قال تعالى: « وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ » الأنبياء: 107.

(2) الخرائج والجرائح 1: 164 / 252، تفسير القرآن العظيم 3: 575.

(3) انظر: مناقب آل أبي طالب 1: 61، مجمع البيان 9: 154، تاريخ اليعقوبي 2: 36 ـ 37، تاريخ الطبري 2: 80، السيرة النبوية (ابن هشام) 2: 286، السيرة النبوية (ابن كثير) 2: 15، الجامع لأحكام القرآن 16: 211.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة