كشكول الوائلي _ 146

زواج النور من النور تطبيق عملي لنظريّات الإسلام
ولعلّ هناك من يسأل فيقول: ما هي الخطوة الضخمة في هذا الزواج؟
إن هذه الخطوة الضخمة تتمثّل باُمور منها:
أولاً: مسألة الكفاءة
أن فاطمة عليها السلام بنت رئيس الدولة.. بنت رسول اللّه صلى الله عليه وآله الذي كان يحمل رسالة السماء بيد ويحمل قيادة الأرض باليد الاُخرى. فالرسول صلى الله عليه وآله جمع بين السلطتين السياسيّة والدينية، وكان الناس من الصحابة وأهل المكانة والجاه يتسابقون لخطبة ابنته عليها السلام، وكان النبي يردّهم، ولم يلبِّ أحدا منهم، حتى آذوه صلى الله عليه وآله، فأخبرهم أنه سيشكو من يخطب إليه فاطمة عليها السلام إلى ربّه؛ ذلك أن المسألة ليست بيده. إلى أن جاءه أمير المؤمنين عليه السلام وقد بدا عليه التعثّر والتلعثم والحياء، فقال له الرسول صلى الله عليه وآله باسما: « ما حاجة ابن أبي طالب؟». فقال عليه السلام: «ذكرت لي فاطمة». فبشَّ له النبيّ صلى الله عليه وآله، وقال: «أبشر يا علي، فإن اللّه قد زوّجك بها في السماء، قبل أن يزوّجك بها في الأرض»(1).
وعظمة هذه الخطوة أنه صلى الله عليه وآله خالف جملة من الأعراف الاجتماعيّة، فالناس كانوا قد عيّروا خديجة لأنها تزوّجت النبي صلى الله عليه وآله وهو الفقير اليتيم؛ حيث إنه صلى الله عليه وآله كان قد ربي عند أبي طالب رضي الله عنه. فخديجة صاحبة المكانة والأموال تلج مثل هذه الزيجة؛ ولذا فقد قاطعوها زمنا طويلاً، ثم يفعل الرسول صلى الله عليه وآله الشيء نفسه مع أمير المؤمنين عليه السلام وفاطمة، وبأي مهر؟ إن المهر الذي ساقه مروان بن الحكم لأمرأة بلغ ( 50 ) ألف دينار، وساق مصعب بن الزبير مهرا قدره مليون، فقال أحد الشعراء:
أبلغ عميد بني الزبير رسالة *** من مؤمن لك لا يريد خداعا
بضع الفتاة بألف ألف كامل *** وبنات سادات الجنود جياعا
أمّا المهر الذي زوّج به النبي صلى الله عليه وآله فاطمة عليها السلام فكان أربعمئة وستّين درهما، وقد اشترى به بعض الصحابه طيبا، وسريرا مزمّلاً بشرائط النخل، وحصيرا هجريّا، وسترا من صوف، ومخضبة من نحاس، وقعبا للّبن، وشنّا للماء. فهذا هو كلّ الأثاث، ولمّا جاؤوا به طرحوه بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وآله، والنبي يقلبه ويقول: «بأبي واُمّي قوم جلّ إنائهم الخزف»(2).
ثانيا: القضاء على الشعور بالعار من تزويج البنت
والعرف الثاني الذي قضى عليه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله هو النظرة التي كان العرب ينظرون بها إزاء تزويج البنت، فالرسول صلى الله عليه وآله عاش في قلب الجزيرة العربيّة.. في مكّة.. في مجتمع يقول أحد الرؤوساء فيه وهو عقيل المري:
إني وإن سيق إليّ المهرُ *** ألفٌ وعبدانٌ وذودٌ عشرُ
أحـبُّ أصـهاري إلـيّ القـبرُ (3)
فهذا لا يطيق أن تُخطب ابنته إلى رجل، في حين أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله يقود موكب عرس فاطمة عليها السلام بنفسه، وحتى أزواجه صلى الله عليه وآله اشتركن في زفاف فاطمة عليها السلام. وكان لاُم المؤمنين عائشة في هذه المناسبة هذه المقطوعة:
يا نسوةُ استترنَ بالمعاجرِ *** واذكُرْنَ ما يحسنُ في المحاضرِ
والحمدُ للّهِ على أفضالِهِ *** والشكرُ للّهِ العزيزِ القادرِ
سِرْنَ بها فاللّهُ أعلى ذكرَها *** وخَصَّها مِنْهُ بطُهْرٍ طاهرِ
كذلك كان لحفصة دورها فقالت:
فاطمةٌ خيرُ نساءِ البشرِ *** ومَن لها وجهٌ كوجهِ القمرِ
زوّجكِ اللّهُ فتىً فاضلاً *** أعني عليّا خيرَ مَن في الحضرِ
فسِرنَ جاراتي بها إنها *** كريمةٌ بنتُ عظيمِ الخطرِ
وقالت معاذة ( اُمّ سعد بن معاذ ):
أقولُ قولاً فيهِ ما فيهِ *** وأذكرُ الخيرَ واُبديهِ
محمّدٌ خيرُ بني آدمٍ *** ما فيه مِنْ كِبْرٍ ولا تِيهِ
بفضْلِهِ عرّفَنا رُشْدَنا *** فاللّهُ بالخيرِ يجازيهِ
ونحنُ معْ بنتِ نبيِ الهُدى *** ذي شرفٍ قد مُكّنت فيهِ
في ذروةٍ شامخةٍ أصلُها *** فما أرى شيئا يدانيهِ
وأنشدت اُمّ سلمة تقول:
سِرْنَ بعونِ اللّهِ جاراتي *** واشكرْنَهُ فِي كلِّ حالاتِ
واذكرْنَ ما أنعمَ ربُّ العُلا *** مِنْ دفْعِ مكروهٍ وآفاتِ
وسِرْنَ معْ خيرِ نساءِ الورى *** تُفدى بعمّاتٍ وخالاتِ
يا بنتَ مَنْ فضّله ذو العُلا *** بالفَضْلِ مِنْه والرسالاتِ
وكان زمام الناقة بيد سلمان الفارسي رضي الله عنه، وإلى جانب الناقة عمار بن ياسر رضي الله عنه، وأبو ذر رضي الله عنه من وراء الناقة يسوقها، ورسول اللّه صلى الله عليه وآله، وأصحابه أمامها، ثم يقف بباب الحجرة ويُقنع بالشيبة الكريمة إلى السماء ويقول: « ياربّ إنّك باركت على آل عمران، فبارك على آل محمد ». ويأخذ يد علي بن أبي طالب ويضعها بيد فاطمة ويقول: « هذه وديعتي عندك ». ثم يتلو قوله تعالى: رَحْمةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ(4). ويخرج من عندهما وهو يدعو لهما(5).
فالنبي صلى الله عليه وآله يري المسلمين بهذا الفعل أنه يسحق أعراف الجاهلية، فليعمل كل مسلم لأجل إنشاء الاُسرة السعيدة.
يتبع…
____________________
(1) مناقب آل أبي طالب 3: 123، بحار الأنوار 43: 109.
(2) دلائل الإمامة: 87، بحار الأنوار 101: 88 / 53.
(3) الأمالي ( المرتضى ) 2: 40، تاريخ مدينة دمشق 14: 32.
(4) هود: 73.
(5) مناقب آل أبي طالب 3: 393 ـ 405، بحار الأنوار 43: 111 ـ 117، 125 ـ 127.