كشكول الوائلي _ 124

ومن الشواهد على قطع اليد في سبيل العقيدة أن ميثماً التمار جيء به فاُدخل على الطاغية عبيد اللّه بن زياد، فقال له أحد الجالسين: هذا من موالي علي بن أبي طالب. فقال لميثم: ماذا قال لك مولاك الكذّاب؟ قال: ما مولاي بكذّاب، الكذّاب أنت وأبوك، ومن استعملك وأبوه. قال: يا عدو اللّه، واللّه لأقطّعنك إربا إربا. قال: افعل ما بدا لك. قال: ماذا قال لك مولاك؟ قال: قال لي مولاي: «يؤتى بك إلى العتلّ الزنيم ابن مرجانة، فيأمر بقطع يديك ورجليك ولسانك، ويصلبك على نخلة». قال: واللّه لاُكذّبنه، اقطعوا يديه ورجليه، وخلّوا له لسانه.
ففعلوا ذلك، وأخذ الدم ينزف منه. فراح يصيح وهو مصلوب على جذع النخلة ولا زالت به طاقة: أيها الناس، من أراد أن يستمع إلى العلم المخزون عن باب مدينة علم رسول اللّه صلى الله عليه وآله فليأتِ إليّ. وراح يحدث الناس بفضائل علي وآل الرسول عليهم السلام ومثالب أعدائهم. فبلغ عبيد اللّه أن ميثماً قد فضحهم وألبّ الناس عليهم، فقال: بادروا إليه واقطعوا لسانه. فلما جاء من يحمل السيف لقطع لسانه قال له: هل استطاع أميرك أن يكذب سيدي؟ ثم مد لسانه ليقطع، وهو يقول: كفاني شرفا أن تقطع أعضائي في هذا السبيل. فقطع لسانه، وبقي مصلوبا على الجذع.
وهذا هو اُسلوبهم، لكنهم لم يعوا أن هذا الجذع أصبح منارة من منائر الشرف. يقول أحد الشعراء في رجل مصلوب:
علوّ في الحياة وفي الممات *** لحق أنت إحدى المعجزاتِ
ولما ضاق بطن الأرض عن أن *** يضم علاك من بعد المماتِ
أصاروا الجوّ قبرك واستعاضوا *** عن الأكفان ثوب السافياتِ (1)
إلى آخر أبياته في هذه التائية الرائعة.
_______________
(1) الأبيات لأبي الحسين الأنباري يرثي بها ابن بقية؛ إذ أن عضد الدولة قتله وصلبه على رأس الجسر في شوال من سنة ( 367 )ه. ومنها مصوّرا حاله وهو مصلوب بأبدع صورة:
كأن الناس حولك حين قاموا *** وفود نداك أيام الصِّلات
كأنك قائم فيهم خطيبا *** وكلّهُمُ قيام للصلاة
مددت يديك نحوهُمُ اقتفاء *** كمدّهما إليهم في الهبات
لعظمك في النفوس تبيت ترعى *** بحرّاس وحفّاظ ثقات
وتشعل عندك النيران ليلاً *** كذلك كنت أيام الحياة
ركبت مطية من قبل زيد *** علاها في السنين الذاهبات
وقوله: زيد علاها: يعني زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام إذ أنه قتل وصلب كذلك. الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير ـ ج8، ص691 ـ 689.
يتبع…