الإمام الكاظم (عليه السلام) ـ القسم الثاني

عبادته
لقد كان الإمام الكاظم (عليه السلام) أعبد أهل زمانه حتى لُقّب بزين المجتهدين، وبالنفس الزكية والعبد الصالح، وليس ذلك بغريب فهو من أئمة الهدى وسلالة التقوى والعروة والوثقى.
ولم يحدّثنا التاريخ عن مسجون كان يشكر الله تعالى على ما أتاح له من نعمة التفرّغ للعبادة بين جدران السجن سوى الإمام (عليه السلام) فكان يقول في دعائه: (اللهم إني طالما كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعَلتَ، فلك الحمد).
وكان من شدة عبادته أن وصفه هارون الرشيد بأنه (عليه السلام) من رهبان بني هاشم، وذلك عندما أودع الإمام في السجن عند الربيع، وأطلّ ذات يوم من أعلى القصر، فرأى ثوباً مطروحاً، فسأل الربيع ما ذلك الثوب المطروح الذي أراه كل يوم في هذا الموضع ولم يتغير عن مكانه؟! فقال له: ما هذا بثوب، وإنما هو موسى بن جعفر له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال، فاهتزّ هارون وقال: إنه من رهبان بني هاشم.
كرمه وسخاؤه
ومن خصاله الشريفة كرمه (عليه السلام)، فقد كان مضرب الأمثال في الجود والسخاء والكرم، وكانت صراره حديث الناس، بحيث يقال: عجباً لمن جاءته صرار موسى ويشتكي من الفقر، وكانت صراره (عليه السلام) تتراوح بين المائتين والأربعمائة دينار، يصل بها القريب والبعيد، يطوف بها ليلاً يوزعها على المحتاجين والمعوزين، لا يبتغي من وراء ذلك إلا وجه الله تعالى، وكان يتكتم في معروفه ويسعف البائسين والمحرومين سراً؛ لئلا يرى على وجوههم ذل السؤال. وأكثر من هذا، كان (عليه السلام) يبلغه عن الرجل يؤذيه ويسيء إليه فيبعث له بصرة فيها ألف دينار.
حكام عصره
بعد أن استشهد الإمام الصدق (عليه السلام) عام ١٤٨هـ بدأ عهد إمامة الإمام الكاظم (عليه السلام) وقد عاصر من الحكام أربعة من ملوك بني العباس:
١ـ المنصور الدوانيقي (١٣٦ ـ ١٥٨هـ)
٢ـ محمد المعروف بالمهدي (١٥٨ ـ ١٦٩هـ)
٣ـ الهادي (١٦٩ ـ ١٧٠ هـ)
٤ـ هارون الرشيد (١٧٠ ـ ١٩٣هـ).
شهادته
تولى هارون الرشيد الخلافة بعد الهادي، وقد تجرع الإمام موسى الكاظم مزيداً من ظلمه وبطشه وتنكيله، فكم مرة يحضر الرشيد الإمام بقصد الإهانة والأذى، وكم مرة يقابله بما لا يليق بمقامه السامي، ويخاطبه بسوء أدب وهو صابر محتسب.
ولم يكتفِ بكل ذلك حتى جاء الرشيد حاجّاً، ولما دخل المدينة ووصل إلى قبر النبي (ص) صاح بأعلى صوته: السلام عليك يا ابن العم، مخاطباً قبر النبي (ص)، يريد أن يري الناس أنه ابن عم رسول الله (ص)، وكان الرشيد يفخر بذلك ويمد بها عنقه، وكان الإمام (عليه السلام) يزور قبر جده، فقال (عليه السلام): (السلام عليك يا أبه) فاهتز الرشيد لذلك وتصور أنها تحدٍّ من الإمام، ولهذا السبب وغيره اتجه نحو قبر النبي (ص) وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني أعتذر إليك من أمر عزمت عليه، إني أريد أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه؛ لأني قد خشيت أن يلقي بين أهلك حرباً يسفك فيها دماءهم.
ثم أرسل الشرطة لإلقاء القبض على الإمام (عليه السلام) وكان الإمام يصلي عند رأس النبي (ص) فقطعوا عليه صلاته وأخذوه وهو يقول: (إليك أشكو يا رسول الله ما ألقى)، ثم وضعوه في محمل وأُرسل إلى البصرة. وللتمويه وإخفاء أمر الإمام أرسلوا محملاً آخر إلى الكوفة، وحُبس الإمام في سجون الرشيد، وظل يُنقل بين سجن وآخر، ومن طامورة إلى أخرى أربعة عشر عاماً حتى ورد في زيارته: (السلام على المعذّب في قعر السجون وظُلم المطامير، السلام على ذي الساق المرضوض بِحَلقِ القيود، السلام على الجنازة المنادى عليها بذل الاستخفاف).
وكان آخر هذه المعتقلات سجن السندي بن شاهك الذي نفّذ جريمة العباسيين بحق الإمام (عليه السلام)، فدسّ له السم في الطعام، وقيل سمه في رطب، فتناول الإمام منه شيئاً يسيراً، فسرى السم في بدنه ولم يمهله سوى ثلاثة أيام حتى قضى نحبه شهيداً مسموماً مظلوماً محتسباً.
مَن مُبلغ الإسلامِ أنّ زعيمه *** قد مات في سجن الرشيد سميما
فالغيُّ بات بموته طربَ الحشا *** وغدا لمأتمه الرشادُ مقيما
ملقىً على جسر الرصافة نعشه *** فيه الملائك أحدقوا تعظيما
فعليه روح الله أزهق روحه *** وحشا كليم الله بات كليما
فسلام الله عليه يوم وُلد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.