بناء النفس
خطبة الجمعة
مسجد الإمام الرضا×
نحمدك اللهم على آلائك، ونصلي على سيد أصفيائك، وعلى السادة من نجبائك الميامين من أوليائك، وعلى ذات النور الأزهر، سيدة نساء البشر، فاطمة أم الميامين الغرر، آخرهم المهدي المنتظر:
إذا شئت أن تحيا حياة سعيــدة *** تفوز بها يوم القيامة في الحشـــرِ
وتحظى بمـا يهـوى الفــؤاد بجنــة *** ملذاتها الخيرات في السـر والجهـرِ
فـخــذ بكتــاب الله نهـجـاً معظمـــاً *** وسيرة خير المرسلين مدى العمـرِ
ووالِ أنــــاســـاً حبـّــهم وولاؤهـــم *** وصية رب العرش في محكم الذكـرِ
هُـمُ آل بيــت المصطــفى ووصيــه *** وأمهُــمُ الزهـــراء سيـــدة الدهــــرِ
وهم علّة الإيجاد والنور في الدجى *** بهـم آيـة التطـهيـر من دنـس الكفرِ
قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾([1]).
لكي يتضح ما نريد الوصول إليه جلياً فلابدّ من إلقاء الضوء على مقدمتين:
الأولى: أن الله سبحانه وتعالى يرصد كل حركات الإنسان وسكناته، وأفكاره ورغباته في صحيفة أعماله، يقول الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ کُلُ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُکُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾([2]).
الثانية: دقة الحساب يوم القيامة؛ حيث إن الإنسان يحاسب على كل أعماله؛ صغيرها وكبيرها، حتى ما تحدّثه به نفسه ويمكن فيها، قال سبحانه: ﴿إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ﴾([3]).
وهذه المنزلة من المنازل الصعبة في الآخرة التي نسأل الله تعالى أن يعيننا عليها.
وبعد هاتين المقدمتين علينا أن نبذل الجهد في طريق بناء النفس التي تحتاج صيانتها إلى عناية شاقة ورعاية مستمرة؛ لترويضها بتقوى الله تعالى، يقول علي×: «إنما هي نفسي أروضها بالتقوى»([4]).
كما إنه علينا أن نسلك الطريق الصحيح في سبيل بنائها من خلال أمور أربعة:
الأول: مشارطة النفس، بأن يتخذ شرطاً على نفسه في كل يوم ألّا يتبع وساوس النفس الشيطانية، ويعاهد نفسه على ألّا يرتكب معصية، ولا يدنّس نفسه برذيلة، ويلتزم بما أمره الله به، ويبتعد عما نُهي عنه.
الثاني: مراقبتها. كما إن عليه أن يضع نصب عينيه أن الله مطلع على ما في قلبه: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾([5]). وقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾([6]). وفي الحديث القدسي: «إنما يسكن جنات عدنٍ الذين إذا هموا بالمعاصي ذكروا عظمتي فراقبوني» ([7]).
أيها العبد المؤمن، لا تجعل أهون الناظرين إليك ربك، فتستهين بخالقك، قال سبحانه: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾([8]).
وهكذا فلنتذكر الخالق في كل شيء حتى نستشعر مخافته، ونتغلب على أهواء أنفسنا. وقد ورد في الحديث: «صلاح النفس مجاهدة الهوى»([9]). كما إن كل من يراقب ذاته يستطيع أن يتغلب على عيوبه.
الثالث: محاسبتها آخر نهار. أي إن عليه أن في نفسه هل وفّى بما شرط على نفسه، أم إن عليه أن يعيد النظر في طريقة إصلاح ذاته في هذه الدنيا الفانية في اليوم الجديد أو الأيام المقبلة؟ وليستغفر الله ويتُب إليه، ويتذكر الله في ميزان عدله، ولا يترك الجد والاجتهاد.
الرابع: الإنابة إليه تعالى. وهي الرجوع في كل اُموره إلى الله تعالى، والإقبال عليه في السر والقول والفعل حتى تكون جميع سكناته وأفعاله في فكره وقلبه وطاعته. وهذا المقام هو أقصى مراتب التوبة، وهو من المقامات العالية، والدرجات السامية، قال سبحانه: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾([10]). ولا يتم ذلك إلّا برعاية مقوماتها، وهي:
أولاً: التوبة إلى الله بكلّ جوارحه حتى يستغرق ذلك قلبه وجميع شعوره.
ثانياً: أن يذكر الله تعالى ونعمه عليه ظاهرة وباطنة، وأن يتذكر أهل حبه وقربه.
ثالثاً: أن يواظب على طاعته وعبادته خالصة له سبحانه من غير أن يشوبها رياء أو كدورة.
(أعاننا الله على طاعته، وجنبنا معصيته، إنه على كل شيء قدير).
________________________
([4]) نهج البلاغة /الكتاب: 45. بحار الأنوار 33: 473 / 686.
([7]) إحياء علوم الدين 15: 11. الدر المنثور 5: 160.
([9]) غرر الحكم ودرر الكلم: 416 / 14. ميزان الحكمة: 3333 / 3921. عيون الحكم والمواعظ: 303 / 5398، وفيه: «مخالفة»، بدل: «مجاهدة».