الإمام الكاظم (عليه السلام) ـ القسم الأول

تمر علينا اليوم ذكرى أليمة، وفاجعة جسيمة، اهتز لها العرش، وبكت لها السماوات والأرضون، ذكرى استشهاد الكوكب الأزهر، والنور الأنور، والعلم الأبهر، والسيد الأطهر الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام)، وسلالة الميامين وعمود الدين، وسابع الأئمة الطاهرين وتاسع المعصومين الهادين.
مولده ونشأته
ولد الإمام الكاظم (عليه السلام) خارج المدينة في قرية يقال لها الأبواء. تضمنت هذه القرية رفات آمنة بنت وهب أم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
كان السبب في ولادة الإمام (عليه السلام) في هذه القرية أن أباه الإمام الصادق (عليه السلام) وعائلته وبعض أصحابه كانوا في سفرة الحج، وعند عودتهم من مكة بعد أداء المناسك ووصولهم إلى هذه المنطقة، نزلوا فيها للاستراحة وتناول الطعام. وبينما كان الإمام الصادق (عليه السلام) مع أصحابه إذ جاءه رسول عائلته وقال له: سيدي يا ابن رسول الله إن حميدة فاجأها الطلق وهي تدعوك. فبادر الإمام إليها مسرعاً، ثم رجع ووجهه يتهلهل فرحاً وسروراً، وبشّر أصحابه بوليده المبارك، ثم اخبر الخواص منهم بأنه الإمام من بعده. وأجرى عليه المراسيم والمستحبات الشرعية، وعندما عاد إلى المدينة أولم فأطعم الناس ثلاثة أيام ووفدت عليه مختلف الطبقات من الناس تشاركه أفراحه، وتقدم له التهاني بوليده المبارك.
وقد ذكر المؤرخون أن ولادته (عليه السلام) كانت في يوم الأحد السابع من شهر صفر سنة ١٢٨ هـ .
أمه جارية اسمها حميدة المغربية، وقيل الأندلسية، وكانت حميدة الصفات حتى وُصفت باللؤلؤة، ونُعتت بالمصفّاة، وكانت (عليها السلام) على درجة كبيرة من الصلاح والتقوى. قال عنها الإمام الصادق (عليه السلام): (إن حميدة مصفّاة من الأدناس كسبيكة الذهب).
نشأ الإمام (عليه السلام) وترعرع في ظل أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) وتربّى في حجره ومدرسته، فاتصف بصفات الكمال وبُنيت شخصيته على أساس من التهذيب والتقوى والخلق الكريم.
كنيته وألقابه
اشتهر الإمام (عليه السلام) بأبي الحسن، وله ألقاب كثيرة، منها: العبد الصالح، والإمام الصابر، وباب الحوائج، وأشهرها الإمام الكاظم لكظمه الغيض.
وهذه الصفة الكريمة من الحلم لا تتصف بها إلا النفوس الكبيرة والشخصيات الفذّة الشريفة، ولنأخذ نموذجاً تاريخياً للإمام (عليه السلام) في هذا الباب، فقد ذكر المؤرخون أن رجلاً من أحفاد الخليفة الثاني في المدينة كلما رأى الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) يشتم الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ليؤذي الإمام (عليه السلام) ويسيء إليه، حتى غضب أصحاب الإمام (عليه السلام) وساءهم هذا التصرف، وهمّوا بقتله، فنهاهم الإمام (عليه السلام) أسد النهي وزجرهم أشد الزجر، ثم سأل عن مكان هذا الرجل فقيل له أن له مزرعة خارج المدينة يتعاهدها ويتولى زراعتها، فقرر الإمام (عليه السلام) أن يمضي إليه، وفعلاً قصده راكباً على حمار، فلمّا دخل مزرعته صاح به العُمَري: لا تطأ زرعنا، فلم يلتفت الإمام (عليه السلام) حتى وصل إليه ونزل عنده يلاطقه ويضاحكه، ثم قال (عليه السلام) له: (كم غرمتَ في زرعك هذا؟). قال: مائة دينار. قال (عليه السلام): (فكم ترجو أن تصيب منه؟). قال: لا أعلم الغيب. فقال الإمام (عليه السلام): (إنما قلت كم ترجو). قال: أرجو أن يجيئني من مائتا دينار، فأعطاه الإمام (عليه السلام) ثلاثمائة دينار وقال: (هذه لك وزرعك على حاله)، فقام العُمَري وقبّل رأس الإمام (عليه السلام) وسأله أن يصفح عنه، ثم تركه الإمام (عليه السلام) وانصرف، فكان الإمام إذا دخل المسجد بعد ذلك وثب إليه العُمَري فسلّم عليه، وقال: (الله أعلم حيث يجعل رسالته). فسأله أصحابه ما قصتك؟! لقد كنت تقول خلاف هذا، فخاصمهم وشاتمهم، وجعل يدعو للإمام كلما دخل وخرج. فقال الإمام (عليه السلام) للذين أرادوا قتله من أصحابه: (أيما كان خيراً ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار اليسير؟!).