كشكول الوائلي _ 96

img

المقدمة الثانية: عطاؤه المتجدّد ومناقبه التي لا تنفد

إن بيننا وبين أمير المؤمنين عليه السلام أربعة عشر قرناً من الزمان تناولت فيها شخصيته وحياته ومواقفه الأقلامُ من مختلف الفئات والمشارب والأذواق؛ فبين محبّ موادّ، وبين مبغض شانئ، وبين متوقّف محايد. وقد كتبت هذه الأقلام ما حلا لها وما لم يحلُ، من واقع الحياة ومن وهم مخيلات أصحابها غير أنه عليه السلام بقي من بين كل الكتابات وهذه الأقلام إشعاعاً حضارياً وهّاجاً في تاريخ الإسلام، بل في تاريخ الدنيا أجمعه. لقد كان يعطي جديداً كلّما شرع أحد في الكتابة عنه؛ فلم تنفد مناقبه، ولم تفنَ محامده.

وسرّ هذه الظاهرة هو أن عناية اللّه‏ تعالى به لم ولن تنقطع عنه أبداً منذ مجيئه إلى الحياة وولوجه فيها وحتى قيام الساعة. وربما يرد في ذهن البعض أن هذا يتنافى مع واقع حياته عليه السلام؛ ذلك أنه لو كان محطّ عناية السماء لما مرّت به في حياته مصائب عظيمة ونكبات جمّة جعلته يتمنّى الموت[1]. لكن هذا غير صحيح من ناحية مبدئية؛ لأن هذه المصائب والنكبات هي بعض ما أعطته السماء ووهبته الإرادة الإلهية؛ لترفع بها كعبه فوق من سواه ولتبرز للدنيا أجمع مقدار إيمان علي بن أبي طالب عليه السلاموصبره وتحمّله؛ وبهذا كان ألقاً، وبقي نجمه يسطع في سماء الإيمان والصبر، وكوكبه يلمع في دنيا الخلود، وبقي هو يتألق بين كل من هم سواه. ودليل هذا أننا حينما ندرس ما مرّ به من هذه المصائب المذكورة دراسة موضوعية فسنجد أنها كافية في القضاء على غيره وكفيلة بأن تأتي عليه، لكن هذا لم يحصل مع أمير المؤمنين عليه السلام الذي كان يدري بأنه حتى بعد الموت لم يسلم من أذى مدّعي الإسلام، فكان يعلم أنه لو دفن علناً لاُخرجت جثته الطاهرة ومثّل بها؛ فكان يوصي ولده الحسن عليه السلام عند وفاته بقوله: «لا تشهدوا أحدا جنازتي ومكان دفني».

وهذا الحذر لم يكن خوفاً من أن يمثّل به، بل إنه كان خوفاً من أن تنتهك حرمة الإسلام بالتمثيل بجسده؛ لأنه عليه السلام كان يعلم مدى حقد السلطة الاُموية وبطشها واعتدائها على حرمات الإسلام؛ وإلاّ فأليسوا هم أبناء وأحفاد هند آكلة الأكباد، التي بقرت بطن حمزة رحمه الله وأكلت كبده نيئاً؟ مع أن المفروض أنه قد قتل وانتهى أمره بالنسبة لها ولجيش زوجها جيش الكفر والشرك؟ وأليسوا هم أبناء وأحفاد قائد جيش الشرك والنفاق أبي سفيان الذي كان يضع رمحه في خدّ الحمزة ويتّكئ عليه حتى تخرج من خدّه الآخر؟ فهذا المقدار من الحقد الكامن والدفين في صدر هؤلاء كافٍ لأن يدفعهم لفعل ما لا يجرؤ غيرهم على فعله مما يدفعهم إلى إخراج الجثمان الطاهر لأمير المؤمنين عليه السلام والتمثيل به.

إن هؤلاء كانوا إذا عزم خطيب على أن يرقى أعواد المنبر أفهموه وأوهموه أنهم لا يريدون أن يذكر لعلي بن أبي طالب عليه السلام منقبة، وأنه غير مرغوب، فيه وأنه ليس أهلاً لأن تكون له مناقب يذكر بها بين الملأ، وأن عليه (الخطيب)[2] أن يحدّث الناس بفضائل الصحابة دون ذكر هذا الرجل. سئل أحدهم يوما: لماذا نرى أن الصحابة كلهم كأنهم أبناء لاُمّ واحدة، وعلي بينهم كأنه ابن عَلة؟ فقال: ولم لا يكون كذلك، وقد سبقهم سلما، وتقدّمهم علما، وفاقهم حلما، وبزّهم شجاعة؟ والجنس لجنسه أميل[3].

فهذا الرجل قد تميّز فأصبح محسوداً.. تميّز عن غيره بالتحلّي بكل الفضائل والتخلّي عن جميع الرذائل؛ فكان طاهراً نقيّاً[4]؛ ولذا فإن هؤلاء لم يتوقوا له ولم يميلوا إلى جانبه ولم يسلكوا مسلكه[5].

يتبع…

_________________________

[1] فقال عليه السلام يصف حاله وحال من معه: «لا أرى هؤلاء القوم إلاّ ظاهرين عليكم؛ لاجتماعهم على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم وطاعتهم لإمامهم ومعصيتكم لإمامكم، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم إياي. إني ولّيت فلانا فخان وغدر، واحتمل فيء المسلمين إلى معاوية، وولّيت فلانا فخان وغدر وفعل مثله، فصرت لا آتمنكم على علاقة سوط. وإن ندبتكم إلى عدوّكم في الصيف قلتم: أمهلنا ينسلخ الحرّ عنّا، وإن ندبتكم في الشتاء قلتم: أمهلنا ينسلخ القرّ عنا. اللهم إني قد مللتهم وملّوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم من هو خير لي منهم، وأبدلهم بي من هو شرّ لهم مني. اللهم مثّ قلوبهم ميث الملح في الماء». ثم نزل. الغارات 2: 636، تاريخ مدينة دمشق 1: 361.

[2] روى الطبري أن المغيرة دعا صعصعة، فقال له: إيّاك أن يبلغني عنك أنك تظهر من فضل علي شيئا علانية، فإنك لست بذاكر من فضل علي شيئا أجهله، بل أنا أعلم بذلك، ولكن هذا السلطان قد ظهر، وقد أخذنا بإظهار عيبه للناس، فنحن ندع كثيرا ممّا اُمرنا به، ونذكر الشيء الذي لا نجد بدّا منه، ندافع به هؤاء القوم عن أنفسنا. فإن كنت ذاكرا فضله فاذكره بينك وبين أصحابك. تاريخ الطبري 5: 188 ـ 189.

[3] الأمالي الطوسي: 608 ـ 609 / 1256، بحار الأنوار 29: 481 / 3، والمسؤول هو الخليل ابن أحمد الفراهيدي.

[4] ورد في زيارة أبي عبد اللّه‏ عليه السلام: «أشهد أنك كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة، لم تنجّسك الجاهليّة بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهمّات ثيابها». مصباح المتهجّد: 721.

[5]  مع أن مسلكه القرآن ومع القرآن بنصّ قول الرسول الأكرم فيه صلى الله عليه وآله: «علي مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض». المعجم الأوسط 5: 135، المعجم الصغير 1: 255. وفي المستدرك على الصحيحين 3: 119 أنه عليه السلام، حينما جاء يودّع اُم المؤمنين اُم سلمة رضي اللّه‏ تعالى عنها عند خروجه إلى الجمل، قالت له: «سر في حفظ الله وفي كنفه، فواللّه‏، إنك لعلى الحقّ والحقّ معك، ولولا أني أكره أن أعصي اللّه‏ ورسوله فإنه أمرنا صلى الله عليه وآله أن نقرّ في بيوتنا لسرت معك».

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة