كشكول الوائلي _ 92

img

العامل الخامس: أنه سبق زمانه بمئات السنين

فهو عليه السلام لم يتّسع له وعاء عصره لا لنقص فيه، وإنما لنقص في عصره، فقد ضاق به مجتمع الكوفة ؛ لأن حجمه عليه السلام يحتاج إلى وسط أكبر من هذا الوسط ؛ فلم يتفاعل معه عصره. ولذا نراه يصعد المنبر فيقول: « اللهم إني قد مللتهم وملّوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم من هو خير لي منهم، وأبدلهم بي من هو شرّ لهم مني. اللهم مثّ قلوبهم ميث الملح في الماء »[1].

ثم يرى النبي صلى الله عليه وآله في المنام فيقول: «يا رسول اللّه، ما رأيت من اُمّتك من الأود واللدد؟». فيقول له صلى الله عليه وآله: «ادعُ عليهم». فيقول: «اللهم أبدلني بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً مني »[2].

وكان يدعو أن يلحق بأحبائه، فكان يقول: « أين إخواني الذي ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ واين ذو الشهادتين؟... أوّه على إخواني الذي تلوا القرآن... »[3].

نعم، لقد ضاق به عصره، وكانت قريش تتربّص به الدوائر، ثم وجد الحقد طريقه إليه في مثل هذه الليلة، وهذا الحقد مهّدت له قريش وجعلت السيف المباشر الذي حمله هو سيف الخوارج.. الخوارج الذين كان منهم ثلاثة في أداء العمرة وقد اجتمعوا في مكة وتذاكروا الاُمراء فعابوهم وعابوا أعمالهم، فقالوا: لو أننا شرينا أنفسنا لله فأرحنا البلاد والعباد من هؤلاء: معاوية، وعمرو بن العاص، وعلي بن أبي طالب! فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا أكفيكم علياً. وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. وقال البرك: أنا أكفيكم معاوية.

فتعاهدوا على ذلك وتفرقوا، وكان الموعد في شهر رمضان في الليلة التاسعة عشرة، وطرحوا الأمر للأشعث بن قيس. ويبدو أنه كان على علم بالواقعة[4].

وقد نقل بعض المؤرّخين أن عدم خروج عمرو بن العاص في تلك الليلة لم يكن لمرض، وإنما اُبلغ بأنه سيتعرّض للقتل.

ويقول أحد المؤرّخين: إن معاوية خرج إلى المحراب هذه الليلة وقد كفّر درعه تحت ثيابه، وإن الضربة التي وقعت عليه لم يكن يقصد بها القتل. وظروف الأحوال تساعد على هذا المعنى.

أما عبد الرحمن بن ملجم فقد سقى سيفه السمّ وكمن لعلي عليه السلام في مثل هذه الليلة، يقول ابن عبدون:

وليتها إذ فدت عمراً بخارجةٍ *** فدت علياً بمن شاءت من البشر[5]

يقول المؤرخون: عندما دخل هذا الشهر المبارك كان علي عليه السلام يوزّع إفطاره بين بيت عبد اللّه بن جعفر وبيت ابنه الحسن عليه السلام وبيت ابنه الحسين عليه السلام، فكان كلّ ليلة يفطر عند أحدهم على شيء من الخبز والملح، وإن زاد فبشيء من اللبن، وكان يكرر هذين البيتين:

تلكم قريش تمنّاني لتقتلني *** فلا وربّك ما ضرّوا وما ظفروا

إن يقتلوني فرهن ذمّتي لهُمُ *** بذاتِ ودقينِ لا يعفو لها أثرُ[6]

حتى قالت اُمّ كلثوم عليهاالسلام: « يا أبتاه، مالي أراك هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد؟ ». فقال عليه السلام: « لا يا بنيتي، إن أباك قتل الأبطال وخاض الأهوال، فما دخل الجوف له خوف، وما دخل في قلبي رعب، وليس منا من يتطيّر، ولكن للموت علامات ودلالات يتبع بعضها بعضاً »[7].

تقول اُمّ كلثوم: عندما حان وقت الإفطار ليلة التاسعة عشرة من رمضان، رفعت لأبي أمير المؤمنين عليه السلام طبقاً فيه إفطاره، وكان فيه إدامان، فالتفت إلي قائلاً: « بنية، ارفعي أحد الإدامين، أما علمت أن من طاب طعامه وشرابه طال وقوفه بين يدي الله؟ ».

تقول اُمّ كلثوم: فلما أردت أن أرفع بعض النباتات التي كانت في الطبق قال: « لا، ارفعي اللبن ».

فهو الذي كان حينما يأكل رغيف خبز أو تمرة يمسح بيده على بطنه.

يتبع…

_______________

[1]  الغارات 2: 636، تاريخ مدينة دمشق 1: 361.

[2]  شرح الأخبار 2: 430 / 779، مقاتل الطالبيين: 25، الطبقات الكبرى 3: 36، شرح نهج البلاغة 9: 118 ـ 119، فيض القدير شرح الجامع الصغير 3: 128 / 2850.

[3]  نهج البلاغة / الخطبة: 182.

[4]  تهذيب التهذيب 3: 65.

[5]  كشف الغمة 2: 66، سبل السلام العسقلاني 2: 11.

[6]  مناقب آل أبي طالب 3: 96، الفائق في غريب الحديث 2: 66 ـ روق، النهاية في غريب الحديث والأثر 2: 279 ـ روق، 5: 168 ـ ودق.

[7]  بحار الأنوار 42: 277، باختلاف.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة