كشكول الوائلي _ 90

img

العامل الثاني: الحقد

فلقد تعرّض علي عليه السلام لحقد بلغ به من الأمر أن تقف إحداهن لتقول:

لاهُمَّ فاعقر بعلي جمله *** ولا تبارك ببعير حمله[1]

وهذا هو الحقد عينه الذي بلغ بالبعض حدّا أنه يتقرب إلى اللّه تعالى بشتمه كلّ يوم سبعين مرة لما يقارب القرن من الزمان، ورحم اللّه الشاعر حيث يقول:

شتمته بالشام سبعين عاماً *** لعن الله كهلها وفتاها[2]

فكانت منابر المسلمين لا تفتتح إلاّ بشتم علي عليه السلام، ولكن، هل ضرّه ذلك الشتم؟ كلا، بل إن الحقائق تبقى كما هي لا ينالها التشويه الأعمى، ويبقى ذلك الشتم عطراً ينثر على تاريخ الإمام علي عليه السلام[3].

ومن شواهد الحقد الذي تعرض له علي عليه السلام أن علي بن عبد اللّه بن عباس كان يكنّى أبا الحسن، فدخل يوماً على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: أنت علي أبو الحسن؟ قال: نعم. فقال عبد الملك: واللّه لا أجمعهما لك، عليٌ وأبو الحسن؟ إما أن تغيّر اسمك أو أن تغيّر كنيتك. فاضطر إلى أن يغيّر كنيته[4].

فلم يكن عبد الملك بالذي يطيق أن يسمع اسم علي عليه السلام و كنيته مجتمعتين، بل ولا منفردتين.

ويرسل الرشيد وهو ابن عم علي عليه السلام خلف أحد العلماء، وقد أعطى رأيا لعلي عليه السلام في مسألة فقهيّة، فيقول له: ألم تعلم أنّا نهينا أن يذكر لهذا الرجل رأي؟ إياك أن أسمع ذلك منك مرّة اُخرى.

هكذا بلغ الحقد بالناس الذين عاصروه والذين جاؤوا من بعده، فالذين عاصروه ما شكروا له مواقفه بل حقدوا عليه، والذين جاؤوا من بعده ما اعترفوا بما أسداه لهم من خير، بل وقفوا يأكلهم الحقد عليه. وهكذا أخذ الحقد طريقه حتى إلى تاريخه (صلوات الله وسلامه عليه).

ومن الغريب أنك ترى أن التاريخ إذا مرّ بهذا الرجل فقد توازنه، والحال أنه عليه السلام ليس له ذنب، فما ذنبه إذا أمره النبي صلى الله عليه وآله عن اللّه تعالى بالقتال[5]؟ وما ذنبه إذا كان عدد القتلى في بدر سبعين وكان نصفهم أو أكثر بسيفه؟ وما من شك أن هذه الدماء لعبت دوراً كبيراً في تحديد مكانته، وقد اختزنت له قريش هذا الحقد.

العامل الثالث: منهجه عليه السلام في تقديم العامّة على الخاصّة

وهذا المعنى واضح في عهده لمالك الأشتر رضي الله عنه، وفي تصرّفه أيّامَ حكمه. فقد كان يؤثر رضا العامّة على رضا الخاصّة، فليس عند علي عليه السلام أن يأخذ القوي أو صاحب الرئاسة حقّه ولا يأخذ الضعيف حقّه، وكان عليه السلام يقول: « القوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له »[6]. لقد آثر رضا عامّة الناس ؛ فتحوّل إلى أنة عند كلّ مريض، وألم عند كلّ جائع.. سمعناه وهو على منبره يقول: « واللّه لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يقودني هواي، أو يغلبني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع، أأبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى؟ »[7].

فكان علي عليه السلام دمعةً في عين كلّ يتيم، وحسرة عند كلّ محروم، وسيفاً يُنتضى ليجلب الحقّ لمن اُخذ منه، وليقف في وجه الباطل. فعلي عليه السلام آثر العامّة على الخاصّة فحقدت عليه الخاصّة.. عمد إلى الرؤوس الكبيرة التي كانت تصول على الرؤوس الصغيرة لتسلبها رغيفها أو تأخذ ثوبها فذادها عنها، وأعاد الحقّ إلى نصابه، وكان في أوّل خطبة له على المنبر عندما انتهت إليه الخلافة يقول: « واللّه لو وجدتها مهرت بها النساء لرددتها، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق »[8].

لقد أعاد (صلوات الله وسلامه عليه) للمسحوقين مكانتهم، وللمغصوب حقّهم حقوقهم، ولليتامى حقّهم من الرعاية والعناية والعطف ؛ فحملت الخاصّة السيوف في وجهه وحقدت عليه.

يتبع…

________________

[1]  القائلة هي اُخت علي بن عدي من بني عبد العزّى بن عبد شمس. تاريخ الطبري 3: 493، الإصابة 5: 53 / 6277.

[2]  دراسات في التاريخ الإسلامي: 230.

[3]  انتقص ابن لحمزة بن عبد الله بن الزبير أمير المؤمنين عليه السلام فقال له أبوه: يا بني، إنه والله ما بنت الدنيا شيئا إلاّ هدمه الدين، وما بنى الدين شيئا فهدمته الدنيا، أما ترى عليا وما يُظهر بعض الناس من بغضه ولعنه على المنابر فكأنما والله يأخذون بناصيته رفعا إلى السماء، وما ترى بني مروان وما يندبون به موتاهم من المدح بين الناس فكأنما يكشفون عن الجيف؟ جواهر المطالب ابن الدمشقي 2: 229، وقريب منه ما في المحاسن والمساوئ: 40، البيان والتبيين 2: 173.

[4]  تاريخ مدينة دمشق 43: 45، وفيه أنه أغراه بمئة ألف كي يغيّر كنيته أوّلاً.

[5]  في الخندق مثلاً.

[6]  ورد أنه عليه السلام لمّا حضرته الوفات جاء الخضر ووقف على باب الدار مسلّما بسلام طويل منه: « القوي العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق ». انظر: كمال الدين: 218 ـ 219، بحار الأنوار 42: 303 ـ 305.

[7]  نهج البلاغة / الكتاب: 45.

[8]  نهج البلاغة / الكلام: 15.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة