كشكول الوائلي _ 89

img

عوامل عدم تفاعل المجتمع مع أمير المؤمنين عليه السلام

وهكذا  كان ولم يبرح الفضائل والمناقب حتى النفس الأخير من حياته، لكن السؤال الذي يُطرح هو: لماذا لم يتفاعل المجتمع معه عليه السلام ذلك التفاعل المطلوب مع ما له من هذه الميزات والمكانة، ومع هذا الحشد من المناقب والإضمامات؟ ولماذا وجد عليه السلام في طريقه أكثر من عثرة وعثرة؟ ما السبب في كل ذلك؟ هناك عوامل عديدة أدّت إلى حصول مثل هذا، نذكر منها:

العامل الأوّل: الحسد

فأول عقبه اصطدم بها أمير المؤمنين علي عليه السلام هي عقبة الحسد، فقد كان محسوداً حسداً لا حدود له، والحقّ أن الحسد في بعض الأحيان يخدم المحسود، يقول الشاعر:

عداي لهم فضلٌ عليَّ ومنَّةٌ *** فلا أبعدَ الرحمنُ عني الأعاديا

هُمُ بحثوا عن زلَّتي فاجتنبتها *** وهم نافسوني فارتقيت المعاليا[1]

حُسد هذا الرجل لأن اللّه تعالى أعطاه من صفات الكمال ما لم يُعطِ أحداً غيره، فقد كان وهو طفل صغير إذا أخذ بيد الرجل أخذ بنَفَسه، وكان إذا جاء الفرس بعنفوانه ووضع يده على صدره فإنه يردّه.

يصفه المؤرّخون بأنه كان كالأسد، غلظ منه ما استغلظ، دقّ منه ما استدقّ، كان يحمل ساعداً يُعبَّر عنه بالحاطم والقاضم[2]. يقول صاحب (لسان العرب) في مادة قضم: « كان علي بن أبي طالب عليه السلام إذا نزل إلى الحرب تَنادى الجيش وصاحوا: احذروا الحطم، احذروا القضم »[3] ؛ لأن ضربات علي عليه السلامكانت بكراً ؛ إذا علا قدّ، وإذا توسّط قطّ[4]، فكانت العرب تعتبر الفرار من الزحف عاراً إلاّ من سيف علي عليه السلام.

ثلاث وثمانون غزوة ما تخلّف فيها عن نصرة المسلمين وما تأخّر إلاّ في غزوة تبوك حيث خلّفه رسول اللّه صلى الله عليه وآله لحفظ الأمن والدولة في المدينة، وكان حسامه هو الحسام الأوّل الذي يدافع عن المسلمين، وقد اُعطي من كمالات الرجولة والبطولة ما كانت معه الاُمم تتفأّل بكتابة اسمه على سيوفها، واُعطي من القوّة والضراوة والشجاعة والبسالة في سبيل اللّه ما لا عين رأت ولا اُذن سمعت. وما وضع تلك الشجاعة في طريق البغي، وما اعتدى يوماً على ضعيف أو منهزم أبداً، بل كانت شجاعته الشجاعةَ التي تتّسم بالرجولة الحقّة والنبل والكرم، وما قاتل إلاّ في سبيل الله، ما قاتل لحقد أو هدف شخصي[5]، بل ترفّع عن أن يقابل الضعيف أو المنهزم نفسيّاً.

ولقد رأيناه يترفّع عن أن يقتل عمرو بن العاص عندما استلقى بين يديه، أو أن يقتل بسر بن أرطاة[6].

ولو رجعنا إلى تاريخ عمرو بن العاص وبسر بن أرطاة لعلمنا أن من الصعوبة بمكان أن يغضّ الإنسان طرفه عنهما ؛ لأنهما كانا مثالاً للخسّة والاعتداء.

وقف عمرو بن العاص ليبيع دينه وهو يعلم من هو علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم في لحظة من لحظات يقظة الضمير كتب إلى معاوية، وذلك لمّا أخذ معاوية منه مصر وأعطاها لعبد العزيز بن مروان والد عمر بن عبد العزيز، كتب إليه قصيدته الجلجليّة المشهورة:

معاويةُ الفضلَ لا تنسَ لي *** وعن موطن الحقّ لا تعدلِ

نسيتَ محاورةَ الأشعري *** ونحنُ على دومةِ الجندلِ

ولولاي كنت كمثل النساء *** تخاف الخروج من المنزلِ

تبعناك من جهلنا يابن هند *** على البطلِ الأعظمِ الأفضلِ

وحيث تركناك أعلى النفوس *** نزلنا إلى أسفلِ الأرجلِ

وإن كان بينكما نسبةٌ *** فأين الحُسامُ من المنجلِ

وأين الثريا وأين الثرى *** وأين معاوية من علي

إلى أن يقول:

وأعطيت مصر لعبد العزيز *** وأعطيتني زِنة الخردلِ[7]

هذا هو موضع الشاهد.

وعمرو بن العاص هذا كان يوماً ما يصف علياً عليه السلام بأنه تلعابة يداعس ويعافس، وأن فيه دعابة[8]، وما ترك سيفاً إلاّ شهره في وجه هذا البيت الطاهر. ولكنها نفس علي الكبيرة التي تأبى أن تنحطّ إلى هذا الدرك، أو تنزل إلى هذا المستوى المنهزم. لقد كان علي عليه السلام بطلاً يقارع الأبطال ويعفّ عن المنهزمين والجبناء.

أما بسر بن أرطاة فقد ملأ الأرض من دماء المسلمين، وقتل حَمَلةَ القرآن الكريم، وأشبع البلدان التي مرّ بها قتلاً وتنكيلاً، وقد أراق الدم في بيت علي عليه السلام، فقد قتل طفلين لعبيد اللّه بن العباس حتى جُنّت اُمهما[9]. وبسرٌ هذا هو الذي ملأ  اليمن دماً، وقد سقط بين يدي علي بن أبي طالب عليه السلام فعاد بعورته، وأدار علي عليه السلام وجهه عنه، ووقف شاعر من الشعراء يصف فعلته وفعلة عمرو بن العاص قائلاً:

أفي كلّ يومٍ فارسٌ تندبونه *** له عورةٌ وسط العجاجة باديهْ

يكفّ بها عنه علي سنانَهُ *** ويضحك منها بالخلاء معاويهْ[10]

لقد وقف أول ما وقف في طريقه الحسد ؛ لأن هذا السيف يحسد على ما فيه من قوّة وفتوّة، وفتك وبطولة، وهذا الجسد المتكامل الذي يأخذ صفة الأسد، وهذه الروح القويّة التي ما انهزمت، وهذا التوجّه الصلب الذي يقول: « ما لقيت أحدا إلاّ أعانني على نفسه »[11]. هذه كلّها جديرةٌ بأن تحسد.

ولمَ لا تحسد مثل هذه الروح، ولقد رأينا علياً عليه السلام يأبى أن يقابل بالمثل من يقابله بأشدّ أنواع الحقد، بل يترفّع تماماً عن ذلك؟

وأي واقعة لم نرَ فيها السمو عند علي عليه السلام؟ رأيناه بعد واقعة البصرة والقتلى خمسة وثلاثون ألفاً تقريباً، ولكنه عليه السلام يبقى تلك النفس المطمئنّة، وذلك الجأش الرابط والثابت، وتلك الروح الكبيرة لينادي: « لا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبراً، ولا تهيجوا النساء بأذى »، ولينادي: « لا يصلن لزوجة رسول اللّه صلى الله عليه وآله منكم أذى ». ويأتي ليقف على رأس المرأة ليقول: « ما أنصفك الذين أخرجوك من بيتك إذ صانوا حلائلهم وأبرزوك »[12].

لله أنت يابن أبي طالب، ليتك تسمع استشهادها بهذا البيت في مثل هذه الليلة وهي تقول:

وإن يك نائيا فلقد نعاهُ *** نعِيٌّ ليس في فيه الترابُ[13]

هذه الروح التي تحنو على من أشبعها طعناً لتغمره بالعطاء والرحمة، لا شك أنه يحسد عليها، فعلي عليه السلاميحسد على كلّ صفة منحتها السماء إيّاه ؛ سواءً في الروح أو في الجسد.

يقول الحاكم في (المستدرك): « قال عمر بن الخطاب: ثلاث خصال لعلي بن أبي طالب لو أن لي واحدة منها لكان أحبّ إليّ من حمر النعم. قيل له: ما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: إن علي بن أبي طالب أخذ الراية يوم خيبر، وإنه تزوج فاطمة، وإنه سكن المسجد مع النبي صلى الله عليه وآله يحلّ له ما يحل لرسول اللّه صلى الله عليه وآله »[14].

فعلي عليه السلام حُسد على مكانته من النبي صلى الله عليه وآله، وحسد على ما حباه اللّه من المزايا، وحسد على هذا الخطّ الناصع الذي لم تدنّسه نقطة سوداء من بدايته إلى نهايته، وحسد على الجبين الذي ما سجد لصنم، وعلى الروح التي ما استكانت إلاّ لله، وعلى الجسد الذي فنيت كلّ ذرّة فيه في الدفاع عن الإسلام والمسلمين.

ومن هنا سئل الخليل بن أحمد الفراهيدي: ما بال الناس هجروا عليا عليه السلاممع قرباه من النبي صلى الله عليه وآله وموضعه من المسلمين، وغناه في الدفاع عن المسلمين؟ فقال: واللّه لقد غلب نوره أنوارهم، وغلبهم على كلّ فضل فهجروه، والشكل إلى أشكاله أميل[15].

نعم، بان عن مجتمعه بالمزايا التي رفعته وميّزته، فحُسد، ولمّا حُسد وقف الحسد في طريقه، ولمَ لا يحسد وكلّ جوانبه جديرة بأن تحسد، سيما من ذوي النفوس الضعيفة؟

يتبع…

_________________

[1]  البيتان لأبي حيان الأندلسي. الكنى والألقاب 1: 61.

[2]  شرح الأخبار 2: 428، مناقب آل أبي طالب 3: 91، وقد نقلاه عن المغيرة.

[3]  لسان العرب 12 ـ 488 ـ قضم، ومثله في النهاية في غريب الحديث والأثر 4: 78 ـ قضم.

[4]  الخرائج والجرائح 2: 542 / 3، النهاية في غريب الحديث والأثر 4: 81 ـ قط.

[5]  كما تمهّل في قتل عمرو بن ودّ حينما بصق عليه ؛ حتى لا يداخل قتله غضبُه لنفسه عليه السلام.

[6]  انظر ج1 ص389، ج3 ص 8 من موسوعة محاضرات الوائلي.

[7]  انظر: الغدير 2: 117 ـ 118، شرح نهج البلاغة 10: 56 ـ 57.

[8]  وردت على لسان عمر بن الخطاب كما في الإيضاح ابن شاذان: 163، 164، 263، 237، تاريخ المدينة 3: 882، أنساب الأشراف 5: 16، منتخب كنز العمّال 5: 189. وعلى لسان عمر بن العاص كما في المصدر نفسه: 498، أو كما نقلها عنه أمير المؤمنين عليه السلامفي نهج البلاغة / الخطبة: 84.

[9]  انظر الكامل في التاريخ 3: 384 ـ 385.

[10]  الفصول المهمة ابن الصباغ المالكي: 90، النصائح الكافية: 93.

[11]  نهج البلاغة / الحكمة: 318.

[12]  شجرة طوبى 2: 324، وقعة الجمل ضامر بن شدقم: 146.

[13]  الجمل: 84، تاريخ الطبري 4: 115. حيث إن العرب يقولون لمن جاء ينعى عزيزا عليهم: ملأ اللّه فمك ترابا، وهي هنا تقول: لا ملأ اللّه فمه ترابا.

[14]  المستدرك على الصحيحين 3: 135، ورواه أحمد عن ابن عمر، انظر مسند أحمد 2: 26.

[15]  الأمالي  الطوسي : 608 ـ 609 / 1256، بحار الأنوار 29: 481 / 3، باختلاف.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة