كشكول الوائلي _ 88

img

آراء المفسّرين في سرقة يوسف عليه السلام

تقول الآية: ﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾، فما هي السرقة المزعومة التي ارتكبها النبي يوسف عليه السلام؟ إن القرآن الكريم عندما يشرح لنا قصّة النبي يوسف عليه السلام يريد منا أن نأخذ العظة والعبرة، ونتأدّب بها ونتربّى عليها، لا أن نتسلّى بالقصّة فقط.

إن إخوة النبي يوسف عليه السلام قالوا في بنيامين أخيه عليه السلام: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾، وذلك لمّا أراد يوسف عليه السلام أن يأخذ أخاه بنيامين إلى جانبه، فافتعل هذه المسألة بأن وضع الصاع في رحل أخيه.

أما عن سرقة يوسف المنسوبة له من إخوته فإن للمفسّرين آراء متشعّبة فيها، وعادة ما تظهر مذاهب المفسّرين في الاُمور غير المحدّدة. ففي القرآن الكريم أشياء محدّدة معيّنة لا يستطيع المفسّر أن يتلاعب بها أو يُخضعها لرأيه، أما مثل هذه الاُمور القابلة للاجتهاد فإن المفسّر يغدق عليها من آرائه وألوانه.

الرأي الأول: أنه عليه السلام سرق لجائع بيضة من بيت أهله

يقول أحد المفسّرين: إن يوسف عليه السلام في صغره رأى جائعا يبكي، فسرق له بيضة من بيت أهله وأطعمه إيّاها.

الرأي الثاني: أنه عليه السلام سرق له دجاجة من بيت أهله

ويقول مفسّر آخر: إن المسروق لم يكن بيضة، وإنما كان دجاجة سرقها لذلك الجائع وأطعمه إيّاها.

الرأي الثالث: أنه عليه السلام سرق منطقة جدّه لاُمّه

وهناك مفسّر ثالث يقول: إن يوسف عليه السلام في صغره سرق منطقة جدّه لاُمّه، والمنطقة هي الحزام.

وهذه الروايات الثلاثة كلّها لا تشكل عنوان سرقة.

الرأي الرابع: أنه عليه السلام سرق المودّة من قلب أبيه عليه السلام

وقد رأيت من المفسرين من يحمل عليه مع أنه رأي وجيه قريب. وهذا من تفسير الإشارة عند الصوفيين، وهذه المدرسة الصوفية في التفسير فيها جذبات روحية.

وهنا قد يسأل سائل: لم سرق يوسف عليه السلام المودّة من قلب أبيه؟ وما السبب الذي جعل يعقوب يميل إلى يوسف عليهما السلام أكثر من باقي إخوته ممّا سبب أنهم حقدوا عليه؟ وهذا الحقد واضح من تعبير الآية الكريمة، والحاقد يلجأ إلى الاتّهام والافتراء والادّعاءات غير الموضوعيّة ؛ لأنه ينطلق من عاطفة لا يمكن له أن يتحكم بها.

والسبب في ذلك أن يوسف عليه السلام وأخاه بنيامين كانا يتيمين، وقد توفّيت اُمهما «راحيل» وهي في شبابها، ومن المعروف أن اليتيم يستدرّ العطف أكثر من غيره؛ لأنه بحاجة إلى تعويض اليتم الذي يعانيه. وهذا ما حدث ليعقوب عليه السلام الذي كان يرى يوسف عليه السلام وأخاه بلا اُمّ، فأراد أن يعوّضهما فقدَ اُمّهما. وإلاّ فإنه عليه السلام كان يعرف خطورة تمييز أحد الأولاد على الباقين، فذلك يخلق الهزّة في المجتمع.

قال النعمان بن بشير: سألت اُمّي أبي بعض الموهبة لي من ماله، ثم بدا له فوهبها لي، فقالت: لا أرضى حتى تشهد النبي صلى الله عليه وآله. فأخذ بيدي وأنا غلام فأتى بي النبي صلى الله عليه وآله، فقال: إن اُمّه بنت رواحة سألتني بعض الموهبة لهذا. قال صلى الله عليه وآله: «ألك ولد سواه؟». قال: نعم. قال: «لا تشهدني على جور». وفي رواية: «ألك بنون سواه؟». قال: نعم. قال صلى الله عليه وآله: «فكلّهم أعطيت مثل هذا؟». قال: لا. قال: «فلا أشهد على جور»[1].

ولو كان هناك مبرّر لهذا التمييز لما اعترض النبي صلى الله عليه وآله لكنه لمّا لم يرَ مبرّرا لذلك اعترض. ثم إنه لو كان عنده مبرّر شرعي لما احتاج إلى شهادة النبي صلى الله عليه وآله.

والمبرر الصحيح كأن يكون أحد الأولاد أكثر حزما من إخوته بأن يدير العمل والبيت والاُسرة، أو أن يكون متّزنا شاطرا ذكيا ذا جوانب علميّة، ومستقيما صائما مصلّيا، وصادقا في معاملته مع الناس، مسالما؛ فيفضّله الأب في حياته لهذه الصفات الحميدة. وهذا مبرّر معقول، أمّا المبرّر غير المعقول فكأن تكون اُمّه جميلة مثلاً أو شابّة. فهذا التمييز يسبب الحقد، وسوف ينسف بناء الاُسرة.

وهذه من النظريات التي جاءت قبل (1400) سنة، ولم يتوصّل إليها علم النفس والاجتماع إلاّ في زمن قريب في القرن العشرين، فمن أين جاء النبي صلى الله عليه وآلهبهذه المعلومات قبل (1400) عاما وهو يعيش في تلك الصحراء؟ لا شك أن ذلك تسديد السماء وتوجيهها.

فالسبب الذي جعل يعقوب عليه السلام يحنو على يوسف عليه السلام وأخيه أنهما يتيمان، ولذا قال إخوة يوسف: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ [2]﴾.

الرأي الخامس: أنه عليه السلام سرق صنما لجدّه لاُمّه عليه السلام

ومن الآراء التي يوردها المفسّرون في سرقة يوسف عليه السلام المزعومة أنه سرق صنما لجدّه لاُمّه، وكان وثنيّا.

وكل همّ المفسّرين أن يحقّقوا معنى السرقة الواردة في الآية. وكل هذه المعاني ليست متّسقة وصائبة.

الرأي السادس: أن عمته ادّعت أنه سرق منطقة جده لتحتفظ به

والرأي الأكثر صوابا أن عمّته التي كانت تحضنه وأخاه بعد وفاة اُمّهما، اعتزّت به أكثر من أخيه، ولم تعد تستطيع مفارقته، فكان لها بمثابة الابن، فهي لم يكن لها ولد. فلما أراد يعقوب عليه السلام أخذه منها، ابتدعت طريقة لبقائه عندها، فادّعت أنه سرق منطقة جدّه. وكانت عقوبة السرقة ذلك الزمان نوعين:

العقوبة المدنية عند الفراعنة، وهي السجن لسنوات محدّدة.

والعقوبة الشرعية في شريعة يعقوب عليه السلام، وهي أن من يسرق يُستعبَد: ﴿قَالُوا جَزَاؤهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤهُ [3]﴾. وإذا ثبت ذلك ليوسف فعقوبته أن يبقى مستعبدا عند عمّته.

يتبع…

____________________

[1]  جامع المقاصد 9: 171، مسند أحمد 4: 268، صحيح البخاري 3: 151، صحيح مسلم 5: 66.

[2]  يوسف: 8.

[3]  يوسف: 75.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة