كشكول الوائلي _ 86

في افتراءات بعض الكتّاب على الإمام السجاد عليه السلام
وهنا نحبّ أن ننبّه إلى أن بعض الكتّاب المهووسين حينما يتناول ولادة الإمام السجاد عليه السلام من كونه من اُم فارسيّة فإنه يقول: إن الذي منع الإمام السجاد عليه السلام من الخروج إلى القتال يوم الطفّ أنه لم يكن متأثّرا بالوراثة بأبيه وإنما كان متأثّرا باُمه. وهذا اللون من الكتب والكتابات عليها الكثير من علامات الاستفهام، وهي كتابات تُسيء للإسلام الذي صهر الجنسيّات المختلفة وذوّبها، وصنع منها مزيجا رائعا يهتزّ له الدهر إعجابا، وهو لون من الفكر يطرده الإسلام عن حضيرته، ويأباه أشدّ الإباء ؛ إذ لا تكاد تجد اليوم دما خالصا مئة بالمئة، ومن يقل ذلك فهو مغفّل.
وفي رأي الإسلام أن الإنسان إنسان بمشاعره وفكره ومصالحه المشتركة وأهدافه؛ ولذلك تجد الآن أن الخصائص التي يعطونها إلى الاُمم الاُخرى لا يدخل فيها الدم، فإن هذا الفكر أصبح فكرا خرافيّا. أما الفكر الصحيح فهو الفكر القائم على أساس المصالح المشتركة واللغة والمشاعر، وهذه هي التي تحدّد معالم القوميّة.
فالإمام السجّاد عليه السلام ولد بين هذين الأبوين، وقد ماتت به اُمّه وهي نُفَساء، أما ما تقوله الرواية من أنها حضرت واقعة الطفّ ورمت نفسها في الفرات وغرقت فهذه لا واقع لها ولا منشأ، ولا أساس لها من الصحّة إطلاقا. والصحيح ما نقلناه من أنها ماتت به وهي نُفَساء، فأوكل الإمام الحسين عليه السلامأمره إلى جارية من جواريه، فربته وأرضعته وعطفت عليه ونشّأته. ولذلك فإن الإمام عليه السلام كبر على احترامها وإكرامها غاية الإكرام، يقول المؤرخون: إنه عليه السلام كان يجلس معها على مائدة الطعام ويؤاكلها ويؤانسها، ولا يمدّ يده إلى الطعام، فلما سئل عن ذلك قال: «إني أكره أن تسبق يدي إلى ما سبقت عينها إليه فأكون قد عققتها»[1]. وهذا النمط من الأدب قد تجده أيضا عند العرب، يقول حاتم الطائي:
وإني لأستحيي صِحابيَ أن يرَوا *** مكانَ يدي من جانب الزاد أقرعا
اُقصِّرُ كفّي أن تنالَ أكفَّهم *** إذا نحنُ أَهوينا وحاجاتُنا معا
أبيت خميص البطن مضطمد الحشا *** حياء أخَاف الضيم أن أتضلّعا
فإنك إن أعطيتَ نفسَك سُؤلَها *** وفرجَك نالا منتهى الذمِّ أجمعا[2]
نشأته عليه السلام ونشاطه إبّان إمامته عليه السلام
ثم ترعرع عليه السلام ونشأ في المدينة، وكانت له فعّاليّات كبيرة فيها بعد استشهاد أبيه الحسين عليه السلام؛ لأنه كان محجوبا أيّام أبيه الذي كانت فعّاليّاته ملء السمع والبصر، وكلّ فعّاليّة للسجّاد تندك بجانب فعّاليّات أبيه عليهما السلام.
وحينما استشهد الإمام الحسين عليه السلام كان عمر السجاد عليه السلام اثنتين وعشرين سنة ؛ لأنه ولد سنة ثمانٍ وثلاثين للهجرة، حيث إن جابر بن حريث كان قد خرج أيّام أمير المؤمنين عليه السلام إلى خراسان ففتحها، وأتى ببنات يزدجرد، فتزوّج الحسين عليه السلامواحدة منهن، فولدت السجاد عليه السلام، وتوفيت به وهي نُفَساء. فعلى هذا يكون عمره الشريف يوم الطفّ اثنتين وعشرين سنة. وكان متزوّجا وعنده الباقر عليه السلاموله من العمر ثلاث سنوات. وكان علي الأكبر أكبر منه ؛ ولذلك لقّب بالأكبر.
ولما رجع الإمام عليه السلام إلى المدينة بعد استشهاد والده عليه السلام، بدأت تظهر عنده بعض الفعّاليّات، وأهمّ هذه الفعّاليّات فعّاليّة الأدعية، فكان من نتاجه هذه الصحيفة السجادية الشريفة (زبور آل محمد)، هذه الثروة الضخمة التي عندما تقرأ دعاء منها كدعائه عليه السلام يوم عرفة فإنك تقف على مضامين فلسفيّة وعقليّة دقيقة جدا يسكبها الإمام عليه السلام في هذه الأدعية، وكذلك في دعائه عليه السلام في تذلّله وتضرّعه، أو إذا شاهد جنازة.
يتبع…
_______________________
[1] الخصال: 518 / 4، مكارم الأخلاق: 221، مناقب آل أبي طالب 3: 300.
[2] شرح نهج البلاغة 19: 189 ـ 190.