كشكول الوائلي _ 85

عوامل الامتزاج بين الحضارتين العربية والفارسيّة
أما اُمه عليه السلام فهي شاه زنان ابنة يزدجرد. وهنا نحتاج إلى وقفة وتأمّل؛ لأن هذا اللون من التزاوج لعب دورا هامّا في مزج الفكر العربي بالفكر الفارسي، والثقافة العربية بالثقافة الفارسيّة، والأدب العربي بالأدب الفارسي، بحيث كوَّن مزيجا له بصماته الخاصّة وأبعاده الحضارية. فلو أردنا أن نخلّص الأدب الفارسي من الأدب العربي لما استطعنا، وكذلك لو أردنا تخليص الأدب العربي من الأدب الفارسي؛ لأن أبعاد الثقافة امتزجت بينهما إلى درجة يصعب معها فصلهما. وقد أدى إلى حدوث ذلك خمسة عوامل هي:
العامل الأوّل: مظهر التزاوج
فمنذ أن أخذت الفتوحات عند المسلمين طريقها إلى الشرق والغرب، راحوا يأتون بالجواري المسبيّات فيتزوّجونهن؛ والذي يحدث أن هذه الزوجة تنقل معها بيئتها الثقافية والاجتماعية والأخلاقية، وتلتقي ببيئة اُخرى فيحدث التفاعل بين البيئتين. ولذا نلاحظ أن موضوع التزاوج لعب دورا كبيرا، فتجد أن بعض اُمهات الخلفاء الاُمويين والعبّاسيّين فارسيات، فقد تزوّج عبد الملك بن مروان امرأة فارسية فولدت له ابنة اسمها مسلمة. وقد خطب عبد الملك من عقيل بن علفة المري ـ وهو بدوي كان يعيش بالصحراء ـ فقال له: أصلح اللّه الخليفة، جنِّبْني هُجَنَاءَك[1]. (والهجين هو الذي يولد من أب عربي واُم غير عربية)[2].
وهذا طبعا لون من العصبيّة الممقوتة التي لا يقرّها الإسلام، وكلّ من تجده يحمل العنصريّة أو العصبيّة فهو بعيد من الإسلام؛ لأن الإسلام لا يلتقي مع العصبية بحال من الأحوال. وكم هي رائعة كلمة رسول اللّه صلى الله عليه وآله لما سمع بعض الناس يفخرون بآبائهم: «فوالذي نفسي بيده لما يدهده الجعل بمنخريه خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية»![3]. والجُعل لا يدهده (يدحرج) إلاّ البعرة. فالإنسان ابن الفكر والعقيدة، وليست المسألة مسألة دم ولحم، وإلاّ فإن بعض الحيوانات ـ كما هو معروف ـ أكثر من الإنسان لحما ودما.
وكانت اُم مروان آخر خلفاء بني اُمية كردية إيرانية، وكذلك اُم المأمون فقد كانت فارسية، والكثير من اُمهات الأيمة فارسيّات، ومنهن اُم الإمام السجاد عليه السلام، وخالته زوجة عبد اللّه بن عمر التي ولدت سالم بن عبد اللّه بن عمر، وخالته الاُخرى زوجة محمد بن أبي بكر التي ولدت له ولدا. فكان يؤتى بالجواري أيّام الفتوحات فيتزوّج بهن المسلمون.
وقد تستغرب أنْ بلغ من أمر الرشيد أنه كان في قصره ألف جارية[4]، وفي قصر المتوكل أربعة آلاف جارية وسرّية[5]، ولكن الغريب من أنيس منصور وغيره من المتهالكين على موائد البغض والتفرقة أن يحاولوا إلصاق ذلك بالأيمة عليهم السلام. وسوف يمر بنا أن الإمام السجاد عليه السلام كان يشتري العبيد والجواري، فإذا جاءت ليلة العيد قال لهم: ارفعوا أيديكم و: « قولوا: اللهمّ اعفُ عن علي بن الحسين كما عفا عنّا ». فيعتقهم ويعطيهم شيئا من المال ويأمرهم بالعمل ويقول لمن يعطيه: « استعن بها على دهرك، أصلح اللّه لك أمرك فيها »[6].
فالجواري لم يكنّ يتأخّرن في بيوت الأيّمة عليهم السلام، وإنما كنّ يعتقن جميعهن. أما أن يدّعي أنيس منصور وغيره غير ذلك فهذا لا واقع له.
إذن هذا العامل كان قد لعب دورا مهمّا جدا في مزج الثقافتين. فهناك فارسيّات تزوّجن من عرب، وبالعكس هناك عربيّات تزوجن في بلاد فارس. ويلاحظ أن الفكر الإسلامي ليس فكرا فارسيّا أو عربيّا فقط، وإنما هو جدول تنصبّ فيه روافد متنوّعة، لكن أبرز هذه الروافد الرافد الفارسي؛ وذلك بسبب وجود الجواري.
يتبع…
________________________
[1] الأغاني 12: 298، وليس فيه: جنبني هجناءك، بل فيه: يخطب إليّ عبد الملك فأرده….
[2] العين 3: 392 ـ هجن.
[3] مسند أحمد 1: 301، تحفة الأحوذي 10: 317.
[4] البداية والنهاية 10: 238 ـ 239، 241.
[5] سير أعلام النبلاء 12: 40.
[6] الصحيفة الكاملة السجّاديّة / دعاؤه عليه السلام في آخر ليلة من شهر رمضان، الإقبال بالأعمال الحسنة 1: 444، بحار الأنوار 46: 104، 95: 187.