كشكول الوائلي _ 84

img

حفظ القرآن من الزيادة والنقص

وذلك بأن نقيّض له من المسلمين من يحفظه، بحيث لو حدثت فيه زيادة أو نقيصة لردّوا عليهم. فالمسلمون حفظوا القرآن الكريم وكتبوه بحيث لو ظهر الآن أي تغيير فإنه يُعرف بسرعة، فلا يمكن أن تتسرّب للقرآن الزيادة أو النقيصة.

وهنا أذكر استنتاجا جميلاً للفخر الرازي المفسّر العملاق يقول فيه: إن هذه الآية تدلّ على أن البسملة جزء من القرآن الكريم[1].

وهذا من مواضع الخلاف بيننا وبين المذاهب الاُخرى، فهناك خلاف بيننا وبين سائر المسلمين حول جزئيّة البسملة من القرآن الكريم، فنحن نقول بجزئيتها من كلّ سورة عدا سورة براءة، وخلاف ذلك تكون السورة ناقصة، فلا بدّ من قراءتها في كلّ سورة.

فالفخر الرازي يقول: إن البسملة موجودة منذ أن وجد القرآن الكريم، فلو كانت من الزيادات فلن يصدق قوله تعالى: ﴿وإنَّا لهُ لَحَافِظُون﴾، فكونها مكتوبة والمسلمون هم الذين أثبتوها فهي جزء من القرآن الكريم، ولولا ذلك لكانت زيادة في القرآن الكريم. وإذا جاز أن نتصوّر أن في القرآن الكريم زيادة جاز أن نتصوّر أن فيه نقيصة.

ولا ننسَ أن نذكر التاريخ الظالم الذي يتّهمنا بالقول بتحريف القرآن الكريم، وهذا أشبه بقول القائل « رمتني بدائها وانسلَّت[2] ». فنحن لا نقول بالتحريف أبدا، ورأي محقّقينا وعلمائنا أن القرآن الكريم هو ما بين الدفتين. وهذا هو رأي الشيخ المفيد[3] والشيخ الصدوق[4] والعلاّمة الحلّي وعمالقة الفكر الإمامي بأجمعهم[5].

وإن كان هناك قول بالزيادة أو النقيصة فعند غيرنا أكثر، وقد كتب السيد الخوئي قدس‏سره في كتابه (البيان في تفسير القرآن)[6] فصلاً ممتعا علميا ودقيقا في موضوع صيانة القرآن الكريم من التحريف، وذكر فيه النصوص التي تدلّ على أن الذي يقول بالتحريف هو غيرنا.

وهناك روايات عند بعض المسلمين تقول: إن سورة التوبة تنقص ما يقرب الثلاثة أرباع من حجمها الحقيقي[7]. فكيف يعتبرونها ناقصة، ويكون القرآن الكريم حجّة؟ فقد يكون هذا الناقص مخصِّصا أو مقيِّدا أو غير ذلك ؛ فلا يسلم حكم من الأحكام الشرعيّة على هذا الفرض. فالذي يقول بالنقص غيرنا لا نحن، ولكن المصيبة هي أننا على امتداد التاريخ ما ملكنا وسيلة إعلام، ولا حكمنا، فوقعت كلّ المصائب على رؤوسنا.

فالقرآن الكريم محفوظ من الزيادة والنقيصة، لكن التحريف وقع في التأويل والتفسير، صحيح أن القرآن الكريم لم يحصل له ما حصل للكتب السابقة التي حصل التحريف في نصوصها، لكن القرآن الكريم تعرض للتحريف بتفسيره، فمن أمثلة ذلك أن معاوية أعطى لأحدهم[8] أربعمئة ألف درهم ليروي أن قوله تعالى:  ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [9]﴾ نزل في عبد الرحمن بن ملجم؛ إذ باع نفسه لله عندما ضرب علي بن أبي طالب عليه السلام[10]، يقول عمران بن حطّان:

يا ضربةً من تقيٍّ ما أرادَ بها *** إلا ليبلغَ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكرُهُ يوما فأحسَبُه *** أوفى البريةِ عندَ اللهِ ميزانا[11]

ومن أمثلة ذلك ما قيل من أن علي بن أبي طالب عليه السلام صلّى بالناس وهو سكران، فقرأ: «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون [12] ونحن نعبد ما تعبدون »[13]، ولم يقرأها كما اُنزلت. وهذا المفتري الذي نسج مثل هذا الخبر أراد أن يغطّي ما كان من فعل أحد الصحابة الذي بقي يشرب الخمر حتى آخر حياته[14]. ولكن كلّ ذلك يتبخّر وتبقى الحقائق كما هي.

ينقل الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (فلسفة العقوبة) رأيا لأبي حنيفة يقول فيه: « لو أغرقوني في الفرات على أن أشرب قطرة من الخمر لما شربت، ولو أغرقوني في الفرات على أن أقول: إنها حرام لما قلت ». ويعلق أبو زهرة على هذا  الكلام بقوله: إن بعض الصحابة شربها، ولا يريد أبو حنيفة أن يفسق هذا الصحابي. مع أن الحرام حرام سواء عند الصحابي أو غيره، ونحن لا نحلّل ولا نحرّم.

يتبع…

_________________

[1]  التفسير الكبير 19: 127.

[2]  الصحاح 5: 1731 ـ سلل.

[3]  المسائل السرويّة: 78 / المسألة: 9، أوائل المقالات: 187 / 59، 400 / 188.

[4]  تصحيح الاعتقادات: 59 / 33.

[5]  الشافي 1: 186، 4: 285، الانتصار: 26، الفصول المهمّة الحرّ العاملي 1: 590، نفس الرحمن: 11.

[6]  البيان في تفسير القرآن: 197 ـ 239.

[7]  روى الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 28، والحاكم في المستدرك على الصحيحين 2: 331 والسيوطي في الدر المنثور 3: 208 أن حذيفة قال: تسمون سورة التوبة هي سورة العذاب وما يقرؤون منها مما كنّا نقرأ إلاّ ربعها وللمزيد حول هذا انظر مبحث هل يقول أهل السنة بالتحريف؟ مع مصادره في ج1 ص210 ـ 211 من موسوعة محاضرات الوائلي.

[8]  هو سمرة بن جندب.

[9]  البقرة: 207.

[10]  الصراط المستقيم 1: 152، وانظر مثلها في آية اُخرى في النصائح الكافية: 253.

[11]  تاريخ مدينة دمشق 43: 459، سير أعلام النبلاء 4: 215، الإصابة 5: 232، البداية والنهاية 7: 364، وقال القاضي أبو الطيّب الطبري وقد بلغته هذه الأبيات:

يا ضربة من شقيّ ما أراد بها *** إلاّ ليهدم من ذي العرش بنيانا

إنى لأبرأ مما أنت قائله *** عنِ ابن ملجمٍ الملعون بهتانا

إني لأذكره يوماً فألعنه *** وألعن الدهر عمران بن حطّانا

عليك ثمّ عليه الدهر متّصلاً *** لعائن اللّه إسراراً وإعلانا

فأنتُمُ من كلاب النار جاء به *** نصّ الشريعة برهاناً وتبيانا

انظر الحور العين: 201.

[12]  الجحد: 1 ـ 2.

[13]  انظر هذا المبحث كاملاً ونقضه والردّ عليه مع مصادره في ج2 ص78 ـ 79 من موسوعة محاضرات الوائلي.

[14]  أبو دلامة.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة