كشكول الوائلي _ 83

img

نهج البلاغة

ولذا حينما يناقش ابن أبي الحديد الذين يقولون: إن (نهج البلاغة) ليس لعلي عليه السلام ؛ لأن فيه أشياء لا تتناسب مع عصره عليه السلام ـ وهذا الموضوع طويل ويحتاج إلى تفصيل، وهو ليس موضوع محاضرتنا الآن ـ فإنه يقول: إما أن نقول: إن (نهج البلاغة) بأجمعه ليس لعلي عليه السلام وهذا باطل ؛ لأن القائلين بذلك ينسبونه إلى الشريف الرضي الذي عاش في القرن الرابع فيما يشتمل النهج على خطب مرويّة في القرن الثاني أو قبله، وإما إن نقول: إن بعض النهج ليس  لعلي عليه السلام، والبعض الآخر منحول ـ أي منسوب لعلي عليه السلام ـ فنأتي بهذا القدر المتيقّن أنه لأمير المؤمنين عليه السلام ونقيس عليه هذا الذي يُشكك فيه، ونرى  هل إنه بالأسلوب الأدبي والديباجة والإيقاع أنفسها، أو تختلف عنه[1]؟

وهذا المنهج منهج سليم يأخذ به الاُدباء والنقّاد إلى هذا الوقت، فهم يعرفون النص الشعري الجاهلي من تعبيراته وأهدافه ومفرداته، فمثلاً إذا وردت في شعر ما لفظة التلفاز فلا يمكن أن يقال: إن هذا الشعر لطرفة بن العبد الذي عاش في عصر الجاهلية.

واُؤكد هنا أن هذه الضجة التي حدثت لـ (نهج البلاغة) هي بسبب الخطبة الشقشقيّة ليس إلاّ، ففي هذه الخطبة يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «  إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضمة الإبل نبتة الربيع »[2]. وهذه أشدّ عبارة استخدمها أمير المؤمنين عليه السلام ؛ لأنه كان غاية في الأدب، وكلامه غاية في اللياقة، فلم يكن عنده من التعبيرات ما عند من عاصره ومن لم يعاصره.

وقد استخدم شيعته هذا الأدب في تعبيراتهم، فانظر إلى الجدل الذي دار بين العلاّمة ابن المطهر الحلي (رضي اللّه تعالى عنه وأرضاه، وقدّس سرّه الشريف) وبين ابن تيمية، فالعلاّمة الحلي عندما يذكر ابن تيمية يقول: وقال العالم ابن تيمية، أو: وقال شيخ الإسلام، أما ابن تيمية فيقول عن العلاّمة ابن المطهّر الحلي: وقال ابن المُنَجَّس[3]. في حين أنه يقتضي أدب العلم أن يكون اللسان نظيفا، وأن يشعر المسلم أن على لسانه رقيبا، فلا تصدر منه كلمة نابية. وينبغي أن يكون للدين والخلق والأدب أثر على اللسان وعلى التعبير. ولكن لا نستكثر على رجل يقول: إن الشيعة لا يُصلُّون ؛ لأنهم ينتظرون صاحب الزمان وربما يظهر وهم في الصلاة فينشغلون عنه أن يصدر منه مثل هذه الألفاظ.

يتبع…

________________________

[1]  شرح نهج البلاغة 10: 127 ـ 129، ونصّ كلامه فيه: « إن كثيرا من أرباب الهوى يقولون: إن كثيرا من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره.

   وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم، فضلّوا عن النهج الواضح، وركبوا بنيات الطريق ضلالاً وقلّة معرفة بأساليب الكلام. وأنا اُوضح لك بكلام مختصر مافي هذا الخاطر من الغلط فأقول: لا يخلو إما أن يكون كل (نهج البلاغة) مصنوعا منحولاً، أو بعضه؛ والأول باطل بالضرورة ؛ لأنا نعلم بالتواتر صحّة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وقد نقل المحدثون كلهم أو جلهم، والمؤرخون كثيرا منه، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك. والثاني يدلّ على ما قلناه ؛ لأن من قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا طرفا من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب، لابدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولّد. وإذا وقف على كراس واحد يتضمّن كلاما لجماعة من الخطباء، أو لاثنين منهم فقط، فلا بدّ أن يفرّق بين الكلامين، ويميّز بين الطريقتين. ألا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده لو تصفّحنا ديوان أبي تمام، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره، لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونفسَه وطريقته ومذهبه في القريض؟ ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه ؛ لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئا كثيرا ؛ لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه ولا من شعره، وكذلك غيرهما من الشعراء، ولم يعتمدوا في ذلك إلاّ على الذوق خاصّة؟

   وأنت إذا تأمّلت (نهج البلاغة) وجدته كلّه ماءً واحدا ونفسا واحدا، واُسلوبا واحدا ، كالجسم البسيط الذى ليس بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوّله كأوسطه، وأوسطه كآخره، وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور، ولو كان بعض (نهج البلاغة) منحولاً وبعضه صحيحا لم يكن ذلك كذلك. فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين عليه السلام.

   واعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه مالا قبل له به؛ لأنا متى فتحنا هذ الباب، وسلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو، لم نثق بصحّة كلام منقول عن رسول الله صلى‏ الله‏ عليه ‏و‏آله أبدا، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول: هذا الخبر منحول، وهذا الكلام مصنوع، وكذلك ما نقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والأدب وغير ذلك. وكل أمر جعله هذا الطاعن مستندا له فيما يرويه عن النبي صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله والأئمة الراشدين، والصحابة والتابعين، والشعراء والمترسّلين، والخطباء فلناصري أمير المؤمنين عليه السلام أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من نهج البلاغة وغيره، وهذا واضح ».

[2]  نهج البلاغة / الخطبة: 3.

[3]  الفوائد الرجاليّة 2: 263.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة