كشكول الوائلي _ 81

زهد علي عليه السلام
فمن كان من الناس يريد أن يعيش كما يعيش المَلَك، فيتخلّى عن اللذّة في الطعام والشراب وغيره، فهو ذو تفكير طوباوي بعيد عن الواقع، وهو لون من الإغراق غير الصحيح في تفسير بعض الأشياء.
وقد يقول قائل: لكن لماذا كان أمير المؤمنين عليه السلام والنبي صلى الله عليه وآله هكذا؟
فنقول: إن أمير المؤمنين عليه السلام كان خليفة مقتدى به، يريد أن يمزج نفسه بأقلّ فرد من الرعيّة ؛ كيلا يشعر أي فرد من الرعية بالنقص، أو أنه معتدى على حقوقه، أو أن هذا الترف وهذه الرفاهية اللذين يعيشهما الخليفة هما على حساب رغيفه، وإلاّ فليس معنى ذلك أن اللذائذ محرّمة. أتى أحدهم أمير المؤمنين عليه السلام يوم النوروز بحلوى الفالوذج، فأخذ منها بكل عفوية وقال: « نورزونا كلّ يوم »[1].
وله قوله المشهور: « واللّه لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يقودني هواي، أو يغلبني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع، أ أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى؟ »[2].
فالمسألة إذن مسألة تأسٍّ، أما أن تَفترِض أني إنسان يجب أن يترفّع عن إشباع الغرائز مطلقا، وأن اُحرَم من لذائذ الحياة التي أرادها اللّه للعباد فلا. يقول الإمام الصادق عليه السلام: « البس وتجمّل ؛ لأن اللّه جميل يحب الجمال، وليكن ذلك من حلال »[3].
مقابلة الإساءة بالإحسان
أي أنه إذا أساء أحد لغيره فعليه ألاّ يقابل إساءته بمثلها، جيء بابن لقيس ابن عاصم المنقري مقتولاً، وكان في ريعان الشباب، وله من العمر عشرون عاما، وقد حملوه لأبيه مع قاتله وكان أحد أبناء عشيرته، فقال لهم: إن كان هذا أخطأ مرّة بقتل واحد من العشيرة فلا اُخطئ مرّتين فأقتله. ثم أطلق سراحه، ونادى أحد إخوان القاتل وأمره أن يحمل إلى اُمّ المقتول ألفا من الإبل، ثم أنشأ يقول:
أقولُ للنفسِ تأساءً وتسليةً *** إحدى يديَّ أصابتني ولم تُردِ
كلاهما خَلفٌ عن فقدِ صاحبِه *** هذا أخي حينَ أدعوهُ وذَا ولدي[4]
فلم يقابل إساءته بالمثل، وإنما قابلها بالإحسان.
ونجد كثيرا من هذا المعنى في سيرة أهل البيت عليهم السلام، فقد كانوا يقابلون الإساءة بالإحسان[5]، وهذا الاُسلوب النفسي له دخل عجيب في الاستيلاء على النفوس، فمن يسئ لك وتحسن إليه ويتكرر ذلك منك، فسوف تترك في نفسه أثرا كبيرا، خصوصا إذا كنت تستطيع مقابلة الإساءة بالمثل.
يتبع…
_________________
[1] تاريخ بغداد 13: 327، تهذيب الكمال 29: 423، سير أعلام النبلاء 6: 395.
[2] نهج البلاغة / الكتاب: 45.
[3] الكافي 6: 442 / 7، وسائل الشيعة 5: 6 / 5741.
[4] خزانة الأدب 2: 311 ـ 312، ديوان الحماسة 1: 66.
[5] وقد مرّ الكثير من هذا سيما في المحاضرات التي تناولت السيرة العطرة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وآله عليهم السلام وخصوصا سيرة الإمام السجاد عليه السلام.