كشكول الوائلي _ 79

img

من مظاهر عدل علي عليه السلام

ثم قال عليه السلام: « ويأمن الضعيف من عبادك »، هذا الضعيف المسحوق الذي يُستغلّ ويُتاجر باسمه، وتسحق آدميّته لا بد أن يأمن في دولة العدل. وقد
رأيناه عليه السلامحينما انتهى له الأمر كيف كان يحمل مسؤوليّة الإنسان الذي يبعد عنه مئات الأميال، يقول في كتابه لعثمان بن حنيف: « واللّه لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يقودني هواي، أو يغلبني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع، أ أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى؟  »[1].

وكان عليه السلام كثيرا ما تعجبه أبيات حاتم بن عبد اللّه الطائي:

أيا ابنةَ عبد الله يا اُمَّ مالك *** ويا ابنةَ ذي البُردَين والأسدِ الوردِ

إذا ما صنعتِ الزادَ فالتمسي لنا *** أكيلاً فإني لستُ آكلُه وحدي

وحسبُك داءً أن تبيتَ ببِطنةٍ *** وحولَك أكبادٌ تحِنُّ إلى القِدِّ[2]

وانتهى به الأمر إلى أن يبيت طاويا ثلاثة أيام، فنزلت سورة بكاملها ترفع عقيرتها آناء الليل وأطراف النهار: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكينا وَيَـتِيما وَأسِيرا * إنَّمَا نُطْعِمُكمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكمْ جَزَاءً وَلا شُكورا [3] ﴾.

يقول الشاعر:

جاد بالقرص والطِّوى مِلءُ جَنبيـ *** ـه وعافَ الطعامَ وهو سغوبُ

فأعادَ القرصَ المنيرَ عليه الـ *** ـقرصَ والمُقرضُ الكرامَ كسوبُ[4]

لقد كان هذا الرجل العظيم يطيل النظر إلى الرغيف ويندُّ ذهنه إلى كبد جائع، ونفس تبيت لا تجد طعاما، يخرج عليه السلام إلى السوق، فلا يشتري من الثياب إلاّ ما كان بدرهم أو بدرهمين، أما ما بلغ الثلاثة دراهم فيعطيه لقنبر، فقد روي أن أمير المؤمنين عليه السلامأتى سوق الكرابيس، فإذا هو برجل وسيم فقال: « يا هذا عندك ثوبان بخمسة دراهم؟ ». فوثب الرجل فقال: يا أمير المؤمنين، عندي حاجتك.

فلما رأى أمير المؤمنين عليه السلام أنه عرفه مضى عنه، حتى انتهى إلى غلام، فقال له: « يا غلام عندك ثوبان بخمسة دراهم؟ ». قال: نعم، عندي ثوبان بخمسة دراهم. فأخذ الثوبين، وكان أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين، فقال: « يا  قنبر خذ الذي بثلاثة دراهم ». فقال له: يا سيّدي أنت أولى به مني؛ تصعد المنبر وتخطب الناس. فقال عليه السلام: « وأنت شاب ولك شره الشباب، وأنا استحي من ربي أن أتفضّل عليك؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ألبسوهم مما تلبسون، وأطعموهم مما تأكلون».

فلما لبس أمير المؤمنين عليه السلام القميص مدّ يده في ردن الثوب فإذا هو يفضل عن أصابعه، فقال للغلام: «اقطع هذا الفضل». فقطعه الغلام له، ثم قال: ياسيدي، هلمّ أكفّه لك. فقال له الإمام عليه السلام: « دعه كما هو ؛ فإن الأمر أسرع من ذلك »[5].

يتبع…

____________________

[1]  نهج البلاغة / الكتاب: 45.

[2]  ديوان حاتم الطائي: 43، ولم ينقل البيت الثالث.

[3]  الدهر: 8 ـ 9، وانظر في سبب نزولها: أسباب نزول الآيات الواحدي: 296، شواهد التنزيل 2: 403، 405 ـ 406، 408، زاد المسير 8: 145، الجامع لأحكام القرآن 19: 130، فتح القدير شرح الجامع الصغير 5: 348 ـ 349، وانظر محاولات نفيها عنه عليه السلام والرد على ذلك في محاضرة (المودة في القربى) من ج6 من موسوعة محاضرات الوائلي.

[4]  شرح نهج البلاغة 19: 101.

[5]  روضة الواعظين: 107.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة