كشكول الوائلي _ 77

img

الحجّاج والأعرابي

ومما له صلة بهذه المعنى حادثة حصلت للحجاج، ذلك أنه كان في الحج ذات يوم، وكان الزحام شديدا على الكعبة، فلم يستطع الطواف، فوضعوا له طنفسة في طرف من أطراف البيت واتّكأ عليها. وفي هذه الأثناء مرّ أعرابي يلبّي بصوت عال ملفت للنظر. فقال الحجّاج: عليّ به. فلما جيء به سأله: ممن؟ قال: من بطن اُمي. قال الحجّاج: أعني من أين استُقصي أثرك؟ قال: من ظهر أبي. قال الحجّاج: بل أعني من أين جئت؟ قال: من الطائف. قال: كيف تركت محمد بن يوسف؟ (وهو أخو الحجّاج، وكان واليا على الطائف). قال: تركته عظيما جسيما خرّاجا ولاّجا، لبّاسا حريرا، آكلاً شاربا، يلعب بأموال عباد اللّه. قال الحجّاج: أنا لا أسألك عن سيرته الذاتية، وإنما أسأل عن سيرته الاجتماعيّة مع الناس. قال الأعرابي: تركته ظلوما غشوما، آمرا بالمنكر تاركا للمعروف، عاصيا للّه، مطيعا للناس. قال: أتقول ذلك وأنت تعلم موضعه مني؟ قال: بلى، أنا زائر لنبي اللّه صلى الله عليه وآله، ووافد على بيت اللّه، أفتراه بمكانة منك أعزّ مني بمكانتي من اللّه ونبيّه؟

فسكت الحجّاج، وخرج الرجل من بين الصفوف دون أن يشعر به أحد، فتبعه طاووس الذي كان جالسا في المجلس، فقال له الأعرابي: ما تريد؟ قال: إن موقفك هذا أعجبني، وأحببت أن أنتفع بصحبتك. فقال الأعرابي: أنت صاحب الوسادة؟ وكان قد ثنيت له وسادة يجلس عليها جنب الحجّاج. قال: بلى، هذا رجل قوي، وكما طلبك طلبني. فقال: أما كان من ورعك ما يردعك عن الاستقرار بمجلسه؟ ثم قال: وإنك تطلب مني الصحبة؟ قال طاووس: بلى. قال: لا، إن لي صاحبا يغار علي، ولا اُريد أن أترك صحبته[1].

فالآية تقول للنبي صلى الله عليه وآله: إن هؤلاء لو ملت إليهم لاتّخذوك خليلاً ولن تكون حينها حبيبا للّه. وقد كان أبو الزهراء صلى الله عليه وآله حبيب اللّه حقا، فقد وقف في الليالي المظلمة حتى انتفخ الساق وورم القدم ونزل عليه قوله تعالى:  ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْك الْقُرْآنَ لِتَشْقَى  [2]﴾. فقال صلى الله عليه وآله: « حبيبي أفلا أكون عبدا شكورا؟ »[3].

هذا هو خط آل محمد صلى الله عليه وآله، إذا جنّ عليهم الليل تجدهم ذائبين باللّه عز وجل. فهكذا كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله، وهكذا كان خليله وأخوه وصفيه علي بن أبي طالب عليه السلام. يقول حبة العرني: بت عنده ليلة فرأيته عند منتصف الليل شبيه من طار عقله، يتلمس الحيطان ويقول: « ربي ليت شعري أفي غفلات مُعرض أنت عني، أم ناظر إليّ؟ ما لي كلّما طال عمري كثرت خطاياي؟ ». ولم يهدأ إلى الصباح[4].

يتبع…

______________________

[1]  جمهرة خطب العرب 3: 331 ـ 332، ولم ينقل حديث طاووس معه.

[2]  طه: 1 ـ 2.

[3]  الكافي 2:95/6، مسند أحمد 4:251، وليس فيهما: حبيبي، فالحديث فيهما خطاب منه صلى‏الله‏عليه‏و‏آلهلمن سأله: لم هذا، وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.

[4]  لم نعثر عليه عن أمير المؤمنين عليه السلام، وقريب منه ما يرويه طاووس عن السجاد عليه السلام، انظر: مناقب آل أبي طالب 3: 291، المزار المشهدي: 141  ـ 142، وسيذكره المحاضر فيما سيأتي، انظر محاضرة (قبسات من حياة الإمام السجاد عليه السلام).

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة