كشكول الوائلي _ 76

img

في الافتراء على اللّهورسوله صلى الله عليه وآله

ثم قالت الآية:  ﴿لتَفتَريَ علينا غَيرَهُ ﴾، وهذه أشدّ من سابقتها، فهم يقولون له: كما جعلتَ مكة بلدا حراما آمنا، فاجعل وادينا مثلها. فاللّه حرم فيها سفك الدم واللجاج والعناد أثناء الحجّ، فقل في وادينا: إن اللّه قال فيه: إنه محرم، ليعرف العرب فضلنا، أي انسب إلى الوحي ما ليس منه. فأجابهم النبي صلى الله عليه وآله بأن هذا لا يمكن أن يكون أبدا. وهذه أيضا من النقاط الخطرة، فالكل يلاحظ في تاريخ الاُمم التي حكمت في اُمّتنا أن الحاكم يبحث عن جماعة يبرّرون وجوده ويثلبون أعداءه، فمثلاً يدخل أحدهم ممن يعتبرونه من الفقهاء على الحجّاج، والحجّاج معروف في أن وسيلته للحكم هي سفك الدم ونشر الرعب والإرهاب، فيبرّر له هذا « الفقيه » عمله بقوله: إن اللّه إذا استرعى عبدا رعيّة كتب له الحسنات وأسقط عنه السيئات[1]!

فهذا يقول له: إن اللّه هو الذي ولاّك على هؤلاء هذا أوّلاً، وثانيا: إن اللّه سيكتب لك الحسنة ويمحو عنك السيئة. فلماذا هذا؟

قد يقول قائل: هل إن هذا التيّار موجود فعلاً عند المذاهب الإسلاميّة؟

فأقول: نعم، هذا صحيح، إنه موجود مع الأسف، ويعزّ عليّ أن اُصرّح بهذا المعنى. فهناك مَن حكم، ولمجرد أنه حكم صار مقدّسا. وأكبر دليل على ذلك أنهم يطلقون عليه لقب الخليفة، كالوليد ويزيد بن الوليد[2]، ثم يفترضون طاعته، ويروون أن من يبيت ليلة وليس في عنقه بيعة لهم ثم يموت فإن ميتته ميتة جاهلية[3]. مع أنه إنسان كلّه ثغرات وعيوب، فكيف يُطلب منا أن نتعبد ونتقرب إلى اللّه بإطاعته[4]؟

يروي البخاري في الصحيح عن عبد اللّه بن عمر أنه لما حدثت واقعة الحرة في المدينة جمع أولاده وأهله فقال لهم: إذا بايع الناس أحدا ثم غدروا به فقد غدروا باللّه، وللغادر لواء يُرفع يوم القيامة. فتمسّكوا ببيعة يزيد[5].

وهذا الذي يرى أن من ينكث بيعة يزيد يكون غادرا يقال له: ما المبرّر لك في طاعة هذا الرجل؟ إنه كان يجلس على منبر المسلمين ويقول:

أقول لصحبٍ ضمّت الكأسُ شَملَهم *** وداعي صباباتِ الهوى يَترنَّمُ

خُذُوا بنصيبٍ من نعيمٍ ولذَّةٍ ***  فكلٌّ وإن طالَ المَدى يَتَصَّرمُ[6]

كان هكذا في الخمرة، أضف إلى لعبه بالقرود والفهود[7]، ومع ذلك يرى ابن عمر التمسّك بطاعته، والمبرّر هو أن يزيد صار حاكما. بل الأكثر من ذلك أن هناك حملات على الذي ينتقد واحدا ممّن حكم. وأقولها ببالغ الأسف: إن مثل هذا الفكر لا يطارَد وإنما يطارَد من يتمسّك بقوله تعالى:  ﴿وَلاَ تَرْكنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكمُ النَّارُ [8]﴾.

فمثل هؤلاء ينسبون إلى اللّه ما لم يقل وما لا يريد، من مثل « إن اللّه إذا استرعى عبدا الخلافة كتب له الحسنات ومحا عنه السيئات »[9]. وفي المقابل يحاولون أن يحطّموا أولياءه، فيبتكروا حديثا ينسبونه للنبي صلى الله عليه وآله الذي لا ينطق عن الهوى، فمثلاً ينبري أحدهم ليقول: قال النبي: إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء[10].

من هم آل أبي طالب الذين هم ليسوا بأولياء للرسول صلى الله عليه وآله؟ أجعفر رضي الله عنهذو الجناحين الشهيد الذي لفعته دماء الشهادة، الطهر الطاهر الذي مُلئ إيمانا من قرن إلى قدم، أم علي بن أبي طالب عليه السلام إمام المتقين، أم سيد العرب عقيل بما له من مزايا ومكانة، أم جمانة بنت أبي طالب المؤمنة الصالحة[11]؟ أهؤلاء ليسوا أولياء للّه! فإن لم يكونوا كذلك فمن هو ولي
اللّه؟ سمرة بن جندب[12]؟

والمصيبة أن الرواية تقرؤها في كتاب يعتبر الثاني بعد القرآن، فلماذا ياتُرى يوجد مثل هذا اللون من النقل الذي يحزّ في النفس؟ ومعنى هذا أنك ترى مثل هذا الرافد في حضارتنا الفكرية الدينية يفتري على اللّه كذبا.

فالآية تخاطب النبي صلى الله عليه وآله باعتباره عنوان الخطاب، وإلاّ فالاُمة هي المعنيّة بالخطاب. فمن يفترِ على اللّه تهددْه الآية الكريمة، قال تعالى:  ﴿آللّهُ أذِنَ لَكمْ أمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ [13]﴾، وقال:  ﴿قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَتَعْلَمُونَ [14]﴾.

فالآية مقام البحث تقول للنبي صلى الله عليه وآله: إن هؤلاء يحاولون أن يزعزعوك ويقرّبوك إليهم كي تميل إلى اختراع شيء وتنسبه إلى اللّه تعالى، وهذا افتراء على وحي السماء.

المبحث الرابع: في اتخاذ الكافرين أولياء

ثم قالت له: وإنك لو فعلت ذلك لهم  ﴿إذا لاتَّخذُوك خَليلاً ﴾. فالنبي صلى الله عليه وآلهله خلّة مع اللّه تعالى، وهو تعالى ناجى الأنبياء عليهم السلام كما في قوله لموسى عليه السلام:
﴿وَأَنَا اخْتَرْتُك فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [15]﴾. فالآية الكريمة تقول له صلى الله عليه وآله: إنك لو أطعت هؤلاء صرت خليلاً لهم ولم تعد خليل اللّه، بل تنفصل عن ولاية اللّه إلى ولاية هؤلاء الظلمة. وهذا في الحقيقة تهديد مرعب.

يتبع…

_____________________

[1]  انظر: شرح نهج البلاغة 17: 61، فتح الباري 13: 101، فيض القدير شرح الجامع الصغير 2: 301، وفيها ردّ الزهري لهذا الحديث .

[2]  قد مرّ ما كان من أفعال هؤلاء وأمثالهم في ج3 ص92 ـ 93 من موسوعة محاضرات الوائلي.

[3]  انظر: صحيح مسلم 6: 20 – 22، السنن الكبرى البيهقي 2: 158 – 159 / 8، صحيح مسلم بشرح النووي 12: 229، التمهيد: 152.

[4]  انظر محاضرة موقف الإسلام من الجور في ج3 ص 85 ـ 101 من موسوعة محاضرات الوائلي.

[5]  صحيح البخاري 8: 99، وانظر صحيح مسلم 6: 20 – 22، قريب منه.

[6]  جواهر المطالب 2: 301.

[7]  انظر: شرح نهج البلاغة 20: 133، البداية والنهاية 8: 239، النزاع والتخاصم المقريزي: 56.

[8]  هود: 113.

[9]  فتح الباري 13: 101، شرح نهج البلاغة 17: 61، فيض القدير شرح الجامع الصغير 2: 301، وفيها أن الوليد بن عبد الملك سأل ابن شهاب عنه فكذّبه.

[10]  صحيح البخاري 7: 73، وفيه: آل أبي ]     [، قال عمرو: في كتاب محمّد بن جعفر بياض، صحيح مسلم 1: 136، وفيه: آل أبي، يعني فلانا، لكن يؤيد أن المقصودين هم آل أبي طالب، ما في فتح الباري 10: 352، شرح نهج البلاغة 4: 64 عن البخاري ومسلم، 12: 88، صحيح مسلم بشرح النووي 3: 87، قال النووي بعده: الكناية بقوله: « يعني فلانا » هي من بعض الرواة، خشي أن يسميه فيترتب عليه مفسدة وفتنة.

[11]  أم اُمّ هانئ التي أجار رسول اللّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من أجارت وهما أخوا زوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي، وكانا ضمن من هرب عند الفتح، وذلك بقوله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله: « قد أجرنا من أجرت يا اُمّ هاني ». الموطأ 1: 152، مسند أحمد 6: 341، 342، 343، 423، 424، 525، صحيح البخاري 7: 110.

[12]  الذي يروى أنه قتل في يوم واحد ثمانية آلاف شخص في البصرة، ولم يفرّق ويميّز بين خارجي ومسلم. وحينما اعتُرض عليه في قتل المسلمين قال: الخارجي يعجّل به إلى النار، والمسلم يعجّل به إلى الجنة. انظر: تاريخ الطبري 4: 176، تاريخ ابن خلدون 3: 10، النصائح الكافية: 76 .

[13]  يونس: 59.

[14]  البقرة: 80.

[15]  طه: 13.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة