كشكول الوائلي _ 72

img

الخروج إلى الطائف

إلى أن اضطروه يوما من الأيام من كثرة ضغط الحجارة أن يخرج إلى الطائف، فوقف له أهل الطائف ثلاث فرق، وقال له أحد رؤسائهم: أما وجد اللّه نبيا غيرك يبعثه؟ فأغضى النبي صلى الله عليه وآله وسكت عنه ؛ لأن السكوت في بعض الأحيان هو أبلغ جواب. وقال له الآخر: أنت يتيم أبي طالب، وتريد أن تسود العرب؟ ألا يسرق ثياب الكعبة إن كان اللّه بعثك؟ ولم يجبه النبي صلى الله عليه وآلهأيضا. والتفت له الثالث فقال: أنت بين أمرين: إما أن تكون نبيّا، وإما أن تكون كذّابا، فإن كنت نبيّا فأنت أكبر من أن اُكلمك، وإن كنت كذّابا فأنا أكبر من أن اُكلّمك.

ثم أشاروا إلى أطفالهم فأخذته الحجارة من كلّ جانب ومكان حتى أدمته، فرفع رأسه إلى السماء وقال: « اللهم إني أشكو إليك ضعف قوّتي وقلّة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، لمن تكلني ؛ إلى عبد يتجهّمني، أو إلى عدوّ ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا اُبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك ، أو يحلّ علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلاّ بك ».

ونظر إليه عتبة عن بعد، وقد عطفته عليه أواصر الرحم، فالتفت إلى غلام له اسمه عُداس من أهل الموصل وقال له: احمل بيدك شيئا من العنب، واذهب إلى هذا الجالس، واطرح العنب بين يديه وابتعد عنه، وإياك والدنو منه ؛ فإنه ساحر، وأخاف أن يسحرك بسحره. فأقبل إليه عُداس، فرفع إليه النبي صلى الله عليه وآلهبصره وقال: « عُداس هذا؟ ». قال بلى، من الذي أخبرك باسمي؟ قال صلى الله عليه وآله: « أوليس قد أسمتك أمك بهذا الاسم عندما وضعتك ؛ لأنك كنت ثقيلاً في بطنها؟ ». قال: بأبي أنت واُمي، من الذي أخبرك بهذا؟ قال صلى الله عليه وآله: « أولست أنت من قرية العبد الصالح يونس بن متى من نينوى بالموصل؟ ». قال: وما أدراك بهذا؟ قال صلى الله عليه وآله: « ذاك نبي وأنا نبي ». فقال عداس: واللّه إني لأرى عليك سيماء النبوّة. ثم انحنى على أقدامه يقبّلهما، فنظر عتبة إلى بعض من كان حوله وقال: قد سحر علينا غلامَنا فلا ننتفع به[1].

ثم رجع رسول اللّه صلى الله عليه وآله، وفي الطريق وجد عليا وخديجة عليهما السلام يبحثان عنه، وقد حملت خديجة وعاءً فيه طعام وماء وهي تنادي: بأبي أنت واُمي يا رسول الله، أين أنت يا ثمال اليتامى؟ فلمّا التقياه أخذت خديجة عليهاالسلام تضمّد جراحه، ثم سقته ماء وأطعمته الطعام، ورجع يتّكئ على علي عليه السلام إلى البيت.

وهكذا كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله بين سيف علي عليه السلام يقوم بوظيفة توفير الحماية له، وبين عطف أبي طالب يدافع عنه، فكان يجن الليل على أبي طالب ولا يذوق النوم، وقد جند أولاده الأربعة في شعب أبي طالب في خدمة النبي صلى الله عليه وآله، فكان النبي صلى الله عليه وآلهينام ساعة في مكان ثم ينقله أبو طالب عنه إلى مكان آخر، ويأتي بأحد أبنائه ليضجعه مكانه، وهكذا إلى الصباح لا يذوق النوم[2]. وكان يمرّ فيجد النبي صلى الله عليه وآلهيصلّي، وعلي عليه السلام يأتم به، ولم يكن على وجه الأرض آنذاك من يعبد اللّه غير هذين، فيقول لولده جعفر: صِل جناح ابن عمك، ثم يقول:

إن عليا وجعفرا ثقتي *** عند مُلمِّ الزمان والنوبِ

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما *** أخي لاُمي من بينهم وأبي[3]

إلى أن لفظ أبو طالب رضي ‏الله ‏عنه أنفاسه الطاهرة ولحق بربه.

من هجرته الشريفة إلى لحوقه بالرفيق الأعلى

ثم توفيت خديجة عليهاالسلام فهبط جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله وقال: « اخرج من مكة ؛ فليس لك فيها ناصر »[4]. وأوحى اللّه له أن يخرج في تلك الليلة من بيت أبي طالب رضى‏الله‏عنهالذي ما انفك عنه، ولما نزل عليه جبرئيل بقوله تعالى:  ﴿وَإذْ يَمْكرُ بِك الَّذِينَ كفَرُوا لِيُثْبِتُوك أوْ يَقْتُلُوك أوْ يُخْرِجُوك وَيَمْكرُونَ وَيَمْكرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ المَاكرِينَ [5]﴾، استدعى عليا عليه السلام وقال له: « المولى عزَّ وجلَّ أمرني أن اُهاجر من مكة إلى المدينة، وأمرني أن اُضجعك مكاني ». فقال: « يارسول اللّه، لو اضطجعت مكانك أوَ تسلم؟ ». قال: « بلى ». قال: « روحي لروحك الفدا، ونفسي لنفسك الوقا »[6].

ورحم اللّه الكعبي حيث يقول:

ومناقب لك دون أحمدَ جاوزتْ *** بمقامِك التحديدَ والتعديدا

فعلى الفراشِ تبيتُ ليلك والعدى *** تُهدي إليك بوارقا ورعودا

فرقدتَ مثلوج الفؤاد كأنما *** يهدي القراعُ لسمعك التغريدا

ووقيت ليلته وبتّ معارضا *** بالنفس لا طفلاً ولا رعديدا

رصدوا الصباح لينفقوا كنز الهدى *** أوَ ما دروا كنز الهدى مرصودا[7]

وخرج رسول اللّه صلى الله عليه وآله ومعه أبو بكر، وقد صنعت لهما أسماء شيئا من الطعام حمله أبو بكر معهم ؛ إذ كان معه أيضا أيمن ابن اُم أيمن وابن أبي اُريقط، فوصل النبي صلى الله عليه وآله إلى الغار فأوحى اللّه إلى حمامتين وحشيّتين فعشّشتا وباضتا في الغار، وأوحى إلى العنكبوت أن تنسج على باب الغار، يقول أحد الشعراء:

ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على *** خير البرية لم تنسج ولم تحم[8]

فتبعته قريش حتّى الغار لكنها يئست أن يكون قد دخل إلى هذا الغار.

ووصل صلى الله عليه وآله إلى المدينة، وأبى أن يدخلها حتى وصل إليه الإمام علي عليه السلام بالظعينة، فقد كتب صلى الله عليه وآله إلى علي عليه السلام أن يرد الودائع، فردّها ولحق بالنبي صلى الله عليه وآله، وكان للمدينة يوم مشهود عند دخوله صلى الله عليه وآله إليها، وبادر الأنصار يضربون الأكبار بأيديهم وينشدون:

طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا *** ما دعا لله داع[9]

ودخل ومعه علي عليه السلام، فناخت ناقته بباب بيت أبي أيوب رضى‏الله‏عنه الذي هدمه الاُمويون بعد ذلك ولم يبقوا له أثرا ولا عينا.

وابتدأ الدور الثالث من حياته الشريفة، وحمل عب‏ء إنشاء المجتمع المدني. فهو في مكة كان يخطّط لترسيخ العقائد، ثم انصرف في المدينة إلى ترسيخ الدولة الإسلاميّة.

فجاهد في سبيل اللّه حقّ جهاده، وذلك أن خاض أربعا وثمانين غزوة حتى لحقه أذى القتال، فكان صلى الله عليه وآله يرجع وبجسده الجراحات، وقدَّم الأضاحي من صحابته وأهل بيته، حتى نزل عليه قوله تعالى:  ﴿الْيَوْمَ أَكمَلْتُ لَكمْ دِينَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكمْ الإِسْلاَمَ دِينا [10]﴾. فأدّى رسالة ربّه، وأكمل دينه حتى نزل به الوجع في يوم السبت الحادي والعشرين من صفر. وكان صلى الله عليه وآله قبل ذلك قد صعد على المنبر وخطبهم قائلاً: « أيها الناس، أي نبيّ كنت لكم؟ ألم أربط حجر المجاعة على بطني؟ ألم اُجاهد الكفار والمنافقين؟ ألم اُقاتل في سبيل اللّه؟ ألم؟ألم؟ ». ثم قال: « إن ربي أقسم ألاّ يفوته ظلم ظالم، فأيّما امرئ منكم له ظلامة عند محمد فليقم إليّ يأخذها، فإن القصاص في دار الدنيا أحبّ إلي من القصاص يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ». فقام إليه أحدهم فقال: كنت طالبا منك أن تساعدني في زواج وقد وعدتني باُوقيّتين. فأشار النبي صلى الله عليه وآله إلى الفضل بن العباس فقال: « نَحّله ما وعدته به ». وقام له سوادة بن قيس فقال: يا رسول اللّه، لي عندك شيء. قال صلى الله عليه وآله: « ما هو؟ ». قال: كنتَ راجعا من الطائف، فرفعت القضيب الممشوق لتضرب الناقة فوقعت الضربة على بطني. وأنا اُريد القصاص. فالتفت إلى بلال فقال: « يا بلال، قم إلى المنزل فائتني بالقضيب الممشوق ».

فذهب إلى بيت فاطمة عليهاالسلام، فقال: يا بنت رسول اللّه، أعطيني هذه القطعة. فقالت: « لماذا؟ ». قال: إن رسول اللّه يريده. قالت: « وماذا يصنع والدي بالقضيب، وليس هذا يوم القضيب؟ ». قال: أوما علمت أنه يودّع أهل الدين والدنيا. فصاحت: « واغمّاه لغمّك يا أبتاه! من للفقراء والمساكين وابن السبيل يا حبيب اللّه وحبيب القلوب؟ ».

ثم أخرجته له، فجاء به فتناوله النبي صلى الله عليه وآلهبيده فأعطاه له وقال: « خذ يا سوادة ». فقال: يا رسول الله اكشف لي عن صدرك. فكشف له النبي صلى الله عليه وآله. فقال: يا رسول اللّه، أتأذن لي أن اُقبّله؟ فقال: « افعل ». فوضع فمه عليه وقال: أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول اللّه من النار يوم النار. فقال صلى الله عليه وآله له: « أتعفو أم تقتص؟ ». فقال: بل أعفو يا رسول اللّه. فقال صلى الله عليه وآله: « اللهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيك محمّد ».

ثم اُرجع النبيّ صلى الله عليه وآله إلى البيت وهو مثقل ويدعو: « ربّ سلّم اُمّة محمّد من النار »، فلمّا أضجعوه على فراشه أقبلت إليه ابنته فاطمة وهي تنادي: « واغمّاه لغمّك يا أبتاه ». ثم جلست إلى جانبه ورأسه في حجر أمير المؤمنين عليه السلام، يقول أمير المؤمنين عليه السلاممخاطبا إياه: « ولقد وسدتك في ملحودة قبرك، وفاضت روحك بين صدري ونحري ». فقد كان رأسه صلى الله عليه وآله بين صدر أمير المؤمنين عليه السلامونحره، وبين الآونة والاُخرى كان الإمام عليه السلام يأخذ شيئا من الماء ويمسح به جبين رسول اللّه صلى الله عليه وآلهوهو يرفع رأسه فيقول: « رفقا بي ملائكة السماوات، رفقا بي ملائكة ربي، لمثلها فليعمل العاملون ». وكان يقول: « حبيبي جبرئيل، عند الشدائد لا تخذلني »[11].

وخرج رسول اللّه صلى الله عليه وآله في اليوم الثاني إلى البقيع، ووقف على أهل البقيع فصاح: « السلام عليكم يا أهل البقيع، لقد جاءت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها ». ثم استغفر لهم وقرأ شيئا من القرآن ورجع. وأخذت العلّة تشتدّ عليه، فصاح: « عليَّ بعلي بن أبي طالب ». فأقبل إليه، فسارَّه طويلاً، واستدعى ابنته فاطمة عليهاالسلام، فسارها طويلاً، فبكت وضحكت، فلما سُئلت أجابت: « انّي إذن لبذرة ». ولما سُئلت بعد ذلك قالت: « لقد بكيت في الاُولى ؛ لأنه نعى إلي نفسه، وضحكت في الثانية ؛ لأنه أخبرني أنني أول أهل بيته لحوقا به ».

حتى إذا اشتدّت الحالة عليه أقبل الحسن والحسين عليهما السلام فوقعا على صدره، فأراد الإمام علي عليه السلام أن يبعدهما عنه ؛ لئلا يضايقاه، فقال صلى الله عليه وآله: « لا، لا يا علي، دعهما أتزوّد منهما ويتزوّدا مني »[12].

ثم أخذ يضمّهما إليه وهو في آخر لحظات حياته:

يتبع…

______________

[1]  انظر: مناقب آل أبي طالب 1: 61، مجمع البيان 9: 154، تاريخ اليعقوبي 2: 36 ـ 37، تاريخ الطبري 2: 80، السيرة النبوية ابن هشام 2: 286، السيرة النبوية (ابن كثير) 2:15، الجامع لأحكام القرآن 16: 211.

[2]  روضة الواعظين: 53.

[3]  الأمالي الصدوق: 598 / 825، شرح نهج البلاغة 13: 269، 14: 76.

[4]  الكافي 1: 449 / 31، الفصول المختارة: 283.

[5]  الأنفال: 30.

[6]  التفسير المنسوب للإمام العسكري عليه السلام: 466 ـ 467.

[7]  ديوان الكعبي: 41.

[8]  البيت للبوصيري في قصيدة البردة. ديوان البوصيري: 165.

[9]  مناقب آل أبي طالب 1: 194، فتح الباري 7: 204، 8: 98.

[10]  المائدة: 3.

[11]  الأمالي الصدوق: 736 / 1004.

[12]  الأمالي الطوسي: 602 / 1244.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة