كشكول الوائلي _ 71

img

من بعثته المقدّسة حتى هجرته الشريفة

مر الدور السابق على رسول اللّه صلى الله عليه وآله قبيل البعثة وهو في هذه الأجواء التي رسمتُها لك ؛ ابتداءً من طفولته وتحنّفه في غار حراء واستمراره على هذا النوع وابتعاده عن مجتمع قريش وترقبه لعطاء السماء إلى أن أراد اللّه تعالى لهذه الأرض أن تزدهر بنور النبوّة، وأن يغمرها عطاء السماء، واُريد للنبي صلى الله عليه وآله أن يحمل قبس الهداية. خرج صلى الله عليه وآله من بيته قاصدا غار حراء، فنزل الوحي بأول سورة كانت إيذانا ببعثته صلى الله عليه وآله:  ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّك الأَكرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [1]﴾.

وهنا يقول المؤرّخون: إن عليا عليه السلام كان مضطجعا إلى جانبه، وقد أشارت إلى ذلك خطبته الغرّاء التي يقول فيها: « أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة. ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله »[2].

فخرج الرسول صلى الله عليه وآله من غار حراء يحمل هذا العب‏ء:  ﴿إنَّا سَنُـلْقِي عَلَيْك قَوْلاً ثَقِيلاً [3]﴾، ويرى أن الدنيا قد اُنيط به إصلاحها، وهو عب‏ء حمله ذلك الكتف العملاق، فما إن نزلت الآية حتى رفع عقيرته: « قولوا: لا إله إلاّ اللّه تفلحوا »[4].

إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله حمَلنا عبئا، فلنحمله فكرا، وحمَلنا جاهلية فينبغي أن نحمله هداية، وعشنا في همومه فينبغي أن يعيش في همومنا. وأنتم الآن في بلد ليس من بلدان الإسلام، فأولادكم هنا أمانة في أعناقكم، فلا يبعدوا عن الإسلام وعن سيرة نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله:  ﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أنفُسَكمْ وَأهْلِيكمْ نَارا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ [5]﴾. فعليكم تقع المسؤولية بالتضامن والتكاتف.

إني أتّصل في بعض الأحيان بقسم من الاُخوة هنا، فيجيبني أبناؤهم تلفونيا وهم لا يعرفون العربية، أو يتعثّرون في أدائها، وهؤلاء بالتدريج سوف ينسون القرآن والأحكام والقيم والأخلاق، ونحن مهما ربحنا لكن حين نخسر الأخلاق فإننا لم نربح شيئا. لا تخسروا أولادكم وبناتكم والاُسرة الإسلاميّة، وحاولوا الاتّصال بالمؤسّسات والجماعات الإسلاميّة، وخصّصوا في الاُسبوع ولو يومين لهم للدراسة في مدارس تُنشِئُونها باللغة العربية، لتدريس اللغة والقرآن. وفي الوقت نفسه على الآباء أن يدفعوا أبناءهم، بشتى الوسائل إلى تعلّم دينهم وأخلاقهم، وأن يكون ذلك مصحوبا بالإصرار منهم إن لزم الأمر.

قد تقول لي: إنني مضطرّ إلى البقاء هنا، وإذا ذهبت إلى مكان آخر فقد لا يتوفّر لي رغيف الخبز.

وأقول لك: لكن علينا ألاّ نكون كمن قال فيه الشاعر:

أبُنَيَّ إن من الرجال بهيمةً *** في صورة الرجل السميعِ المُبصِرِ

فَطِنٌ لكلِّ رزيَّةٍ في ماله *** فإذا اُصيب بدينه لم يشعُرِ

وهناك نقطة اُخرى مهمة أرجو أن تتنبّهوا إليها، وهي أن الغرب يحنُّ إلى مؤسّساتنا الإسلامية، ويريد الاُسرة الإسلامية، فلا ينتهين بكم الأمر إلى حد أنه إذا وصل الابن إلى السن القانوني ترك أباه يصارع آلامه وحده، و إذا كبرت البنت فلتت وملكت زمامها بيدها. وهذا المصير عليكم أن تتوقّعوه وتضعوه أمام أعينكم ؛ لأنني أعرف أن الحالة في بلداننا لا تشجّعكم على الرجوع حتى لو حُلَّت مشكلتنا ؛ لأنكم وجدتم هنا خدمات لا تتيسّر لكم هناك. وأنا أشك في أن الكثير ممن خرج سوف يرجع مرة اُخرى.

فإذا كان الأمر كذلك فعليكم أن تضعوا أمام أعينكم الحل الذي يحفظ لكم اُسركم وأبناءكم بأي طريق كان، ولا تلقوا التبعات على غيركم، فأنتم مسؤولون مباشرة في أن تتعاونوا على حفظ اُسركم وأبنائكم. وهذا الصوت أرفعه من هنا، وآمل من اللّه أن يستجيب له مَن يقوى على الاستجابة بقليل أو كثير.

نعم، رجع النبي صلى الله عليه وآله من غار حراء، فهبط عليه جبرئيل يحمل السورة الثانية:  ﴿يَا أيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأنذِرْ [6]﴾. فخرج، وخرج من ورائه الساعد الذي ما فارقه، والسيف الذي ما ابتعد عنه، والنفس التي ما برحت إلى جانب روحه ليل نهار، وهي نفس علي ابن أبي طالب عليه السلام. فكان رسول اللّه صلى الله عليه وآله يقول: « قولوا: لا إله إلاّ اللّه تفلحوا »، والحجارة تأخذه، ويد علي عليه السلام على سيفه يناله قسط من الحجارة التي تنال النبي صلى الله عليه وآله، ويناله الألم، ويتعرض إلى ما يتعرض له رسول اللّه صلى الله عليه وآله، فيذود عنه ويدافع، ولا يكاد يترك قائم السيف حتى يعود إلى البيت.

ويندر أن يعود النبي صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلامخاليين من الجراح، فقد كانت الجراح والحجارة تستوعبهما، وكان النبي صلى الله عليه وآله بما عرف عنه من النفس الكبيرة يمسح الدم ويشخص ببصره إلى السماء فيقول: « اللهم اغفر لقومي ؛ إنهم لا يعلمون »[7].

يتبع…

______________

[1]  العلق: 1 ـ 5.

[2]  نهج البلاغة / الخطبة: 192، المعروفة بالخطبة القاصعة.

     وفيها: « ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وخديجة وأنا ثالثهما ؛ أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة. ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله، فقلت: يا رسول الله، ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان أيس من عبادته. إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى إلاّ إنك لست بنبي، ولكنك وزير، وإنك لعلى خير ».

[3]  المزّمّل: 5.

[4]  مناقب آل أبي طالب 1: 51، المصنّف ابن أبي شيبة 8: 442 / 6.

[5]  التحريم: 6.

[6]  المدّثر: 1 ـ 2.

[7]  الإقبال بالأعمال الحسنة 1: 384، بحار الأنوار 95: 167.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة