كشكول الوائلي _ 70

img

رفع الحجر الأسود

فمن المعروف أنه هو الذي فضّ النزاع بين قريش في موضوع وضع الحجر الأسود في الكعبة، وإلاّ فإن الأمر كان قد وصل إلى القتال بين قبائل قريش، فكلّ قبيلة تريد أن تضع الحجر بنفسها، وجاء رسول اللّه صلى الله عليه وآلهفأمرهم أن يضعوا إزارا ويضعوا عليه الحجر، وتتوزّع القبائل على جوانبه الأربعة فيحملوه دفعة واحدة، فلما رفعوه وضعه بيده الشريفة في مكانه[1].

لقد عرف بسداد الرأي وحصافة الفكر منذ طفولته، وعرف بالطهر الطاهر، فقد كان بعيدا عن آثام قريش ولم تدنّسه أوضار الجاهليّة، وإنما كان يخرج وليس له من لِدَةٍ يألفها إلاّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب  عليه السلام، وبعض اللِّدات الذين لم يُلقِ التاريخ عليهم كثيرا من الأضواء، ولكن المعروف عنه أنه كان يألف علي بن أبي طالب عليه السلام، فكان يحمله على صدره ويطوف به شعاب مكة ويقول: « أخي ووزيري وناصري وخليفتي من بعدي »[2]. وكان إذا عاد إلى البيت عاد بعلي عليه السلاممعه.

وقد قضى صلى الله عليه وآله هذا الدور إلى أيام زواجه من خديجة عليهاالسلام، وكان يصرّ خلال هذه الفترة على أن يعمل ولا يأكل إلاّ من عمله، فاشتغل صلى الله عليه وآله في كثير من الأعمال كان آخرها العمل في التجارة مع خديجة عليهاالسلام التي كان لها الكثير الكثير من الأموال، وكان التجار القرشيّون يضاربون بأموالها ويقترضون منها. ويقول بعض المؤرّخين عن أموال خديجة: لو أن رجلاً وقف بهذا الجانب، ووقف رجل آخر بذاك الجانب ووضعت بينهما أموال خديجة عليهاالسلاملما رأى أحدهما الآخر لما تشكله هذه الأموال من تلٍّ من بدر الدنانير والدراهم[3]، وقد ساقتها بأجمعها إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله، وساقت معها ثمانية آلاف ناقة، ومن الحلي والحلل ما أطنب التاريخ في وصفه، كلّ ذلك كان في خدمة الإسلام[4]، وآل بها الأمر أن تضطجع مع النبي صلى الله عليه وآلهعلى جلد كبش، فقد أنفقت كلّ ذلك في سبيل الله.

نعم لقد اشتغل النبي صلى الله عليه وآله مع خديجة بأن ذهب في تجارة لها مع غلامها ميسرة، وقد أوصت غلامها ميسرة أن يراقب النبي صلى الله عليه وآله في بيعه وشرائه، فكان يراقبه فيرى أنه إذا مشى في الصحراء انفصلت غمامة من الغمام فتظلّل على رأسه وتدفع عنه حرّ الشمس، وتميل معه أينما مال. فأخبر ميسرة خديجة عليهاالسلاموقال لها: واللّه لقد رأيت صدقه وعفافه وأمانته، ورأيت الغمامة تظلّله، يقول البوصيري:

ورأته خديجةٌ والتُّقى والـ *** ـجودُ منه سجيّة والحياءُ

وأتاها أن الغمامةَ والسر *** ح أقلّتهُ منهما أفياءُ

فدعته إلى الزواج وما أحـ *** ـسنَ ما يبلغُ المنى الأذكياءُ

وإذا سخَّر الإلهُ اُناسا *** لسعيدٍ فإنَّهم سُعداءُ[5]

خطب له عمه أبو طالب خديجة عليهاالسلام، وساق لها ثلاثمئة من الإبل نُحرت، وساق لها المهر، فتزوّج صلى الله عليه وآله من خديجة عليهاالسلام فأرسلت مناديا لينادي في الناس: كلّ مال لي فهو تحت تصرف محمد صلى الله عليه وآله يفعل به ما يشاء. فأخذ النبي صلى الله عليه وآله تلك الأموال وأنفقها في طريق الإسلام بأجمعها. ثم أعقب منها القاسم والطاهر والزهراء عليهاالسلام التي لقّبها صلى الله عليه وآله بـ  « اُم أبيها »[6] ؛ لأن الاُم هي أصل الأشياء، ومن هنا عُبّر عن مكة بـ  « اُم القرى »، وعن الفاتحة بـ  « اُم القرآن »، وكذلك فاطمة عليهاالسلام ؛ لأنها الأصل، فلولا أولاد فاطمة عليهاالسلام لانقطع أصل النبي صلى الله عليه وآله ونسله. ولذلك كان صلى الله عليه وآله يقول عنهما: « ابناي »[7].

وهذا ما احتجّ به الإمام موسى بن جعفر عليه السلام على الرشيد حيث قال له: « لو بُعث رسول اللّه صلى الله عليه وآله حيا وخطب منك ابنتك أكنت مزوّجه؟ ». قال: بلى والله، وأفتخر بذلك على العرب والعجم. فقال الإمام عليه السلام: « وهل يسعني أن اُزوجه؟ ». قال: لا. فقال الإمام عليه السلام: « لماذا؟ ». قال: لأنك داخل في صلبه. قال الإمام عليه السلام: « فهذا هو الذي دعانا إلى أن نقول: نحن أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله »[8].

وقد درج القاسم والطاهر في حياة النبي صلى الله عليه وآله، أما ربائبه الثلاث غير فاطمة فتختلف آراء المفسّرين والمؤرّخين في كونهن بناتِه أو ربائبَه، ويميل ظاهر التحقيق إلى كونهن ربائبه[9]، وهناك روايات بأنهن بناته[10].

وبقيت هذه النسمة الطاهرة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وآله: إنها « اُم أبيها » مبعث سلوة لرسول اللّه صلى الله عليه وآله يلمس في جبينها جبين اُمها خديجة عليهاالسلام التي ما ذكرها إلاّ وانتفض واهتزّ من قرن إلى قدم، حتى قالت له بعض نسائه يوما: ما الذي يدعوك إلى الإكثار من ذكر خديجة؟ وهل هي إلاّ امرأة حمراء الشدقين أبدلك اللّه بخير منها؟ فقال صلى الله عليه وآله: « كلا إن اللّه لم يبدلني بخير منها، إنها آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذب بي الناس، ورزقني اللّه منها ولدا إذ حرمني أولاد سائر النساء »[11].

يتبع…

_________________

[1]  مناقب آل أبي طالب 1: 200، المستدرك على الصحيحين 1: 458.

[2]  ورد هذا الحديث عن الصادق الأمين صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في حق أمير المؤمنين عليه السلامبصيغ كثيرة ومناسبات عدّة، انظر: الكافي 1: 321 / 7، الأمالي الصدوق: 354 / 432، السنن الكبرى (النسائي) 5: 126 / 8451، المعجم الكبير 12: 321.

[3]  قريب منه في بحار الأنوار 19: 62 ـ 63.

[4]  انظر ذلك في محاجّة أسماء بنت عميس رضي اللّه عنها مع عمر، وذلك أنه حين رأى أسماء قال لها: نحن سبقناكم بالهجرة ؛ فنحن أحقّ برسول الله صلى‏الله‏عليه‏و‏آلهمنكم. فغضبت وقالت: كلاّ والله، كنتم مع رسول الله صلى‏الله‏عليه‏و‏آلهيطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله. وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله، ونحن كنا نؤى ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله، وأسأله والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه.

     فلما جاء النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قالت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا. قال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله: « فما قلت له؟ ». قالت: قلت له كذا وكذا. قال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله: « ليس بأحقّ بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهلَ السفينة هجرتان ».

     انظر: صحيح البخاري 5: 80، صحيح مسلم 7: 172، السنن الكبرى النسائي 5: 104.

     ومعلوم أنه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كان فقيرا ؛ فهو صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كان ينفق من أموال خديجة عليهاالسلام، ويؤيّده ما في المصدر السابق.

[5]  ديوان البوصيري: 9، وانظر: كمال الدين: 187، المستدرك على الصحيحين 2: 616.

[6]  مقاتل الطالبيّين: 29، المعجم الكبير 22: 397، اُسد الغابة 5: 520.

[7]  تحفة الأحوذي 10: 187، المصنف ابن أبي شيبة 7: 512 / 22، خصائص أمير المؤمنين (النسائي): 123، صحيح ابن حبان 15: 423، المعجم الصغير 1: 200، كنز العمّال 13: 671 / 37711، تاريخ مدينة دمشق 13: 25، 26، 199، 14: 151، 155 تهذيب الكمال 6: 55، وغيرها كثير.

[8]  انظر الاحتجاج 2: 338 / 271.

     ومثلها مناظرة الإمام الرضا عليه السلام مع المأمون، انظر بحار الأنوار 10: 349 / 9، 94: 187 / 19.

[9]  انظر كتاب: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ؛ سيرة وتاريخ آل ياسين: 27.

[10]  الطبقات الكبرى 1: 133، 8: 217، تاريخ مدينة دمشق 3: 125، 128، 12: 128، اُسد الغابة 5: 456.

[11]  بحار الأنوار 16: 12، مسند أحمد 6: 118، المعجم الكبير 23: 13، سير أعلام النبلاء 2: 112، الإصابة 8: 103، كنز العمال 12: 132 / 34348.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة