كشكول الوائلي _ 69

img

حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله

وفي هذا اليوم سيكون ختام هذا المجلس الطاهر في ذكرى الرسول الكريم، نبينا وشفيعنا محمد المصطفى صلى الله عليه وآله، وللتعرّف على حياته وسيرته (صلوات اللّه عليه وعلى آله) لا بدّ من المرور بمراحل ثلاث من هذه الحياة الشريفة، وهي مراحل ملؤها العطاء:

من ولادته حتى بعثته صلى الله عليه وآله

ولد صلى الله عليه وآله في مكة المكرّمة[1]، وقد اعتاد المؤرّخون أمرا هو أنهم إذا مرّوا بولادته صلى الله عليه وآله فإنهم يذكرون إرهاصات واُمورا جرت معها وساوقتها. لكن نقول: إن الواقع أن هذه الاُمور لا تزيد الرسول صلى الله عليه وآله شيئا فوق ما هو عليه.

إرهاصات ولادته صلى الله عليه وآله

ومن هذه الاُمور التي يذكرها المؤرخون أنْ فاضت بحيرة السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، ومنعت الشياطين من استراق السمع[2]، وغيرها[3].

وهذا التماس للمناقب من خارج ذات الرسول صلى الله عليه وآله، وهو غني عن ذلك، فكل لحظة من لحظات حياته عطاء ومكسب من المكاسب لهذه الاُمة ما زال يمدّها ويرفدها. فسواء غارت النجوم أو منع الشياطين من استراق السمع أو غاضت بحيرة ساوة أو لم يكن، فإن ذلك لا يعطي النبي صلى الله عليه وآلهشيئا أكبر مما أعطاه الله، فهو صلى الله عليه وآلهمنذ ولادته ولد في أقدس الحجور وأطهر البيوت، فبيت الرسول صلى الله عليه وآله ـ وهذا معروف على تسلسله ـ ما خضع لنكاح من أنكحة الجاهلية، يقول البوصيري رحمه ‏الله:

لم تزلْ في ضمائر الكون تُختا *** رُ لك الاُمهاتُ والآباءُ

تتباهى بك العصور وتسمو *** بك علياء بعدها علياءُ

وبدا للوجود منك كريمٌ *** من كريمٍ آباؤه كرماءُ

نسبٌ تحسبُ العُلا بحُلاها *** قَلَّدَتها نجومَها الجوزاءُ

حبَّذا عقدُ سؤددٍ وفخارٍ *** أنت منه اليتيمةُ العصماءُ[4]

فرسول اللّه صلى الله عليه وآله ولد في بيت طاهر، ولم يتطّرق إلى نسبه شيء من العقود التي كانت في الجاهلية.

واُلفت النظر هنا إلى أن الإسلام لم يقدح بالعقود التي كانت في الجاهلية: « لكل قوم نكاح »[5]. فأقرّهم على ما هم عليه، وكان معظم الصحابة مولودين من زواج على غير الصيغة الإسلامية، فكان العقد في الجاهليّة أن يوجّه الإنسان باب خباء إلى باب خباء، أو باتّباع اصطلاحات اُخرى بحيث لو صدرت الآن فإننا لا نقرّها، لكنها صادرة منهم، و« لكل قوم نكاح ». وبتعبير آخر إن إبراز الإرادة تارة يكون لفظيا واُخرى يتمّ عمليا، وهذا مثل البيع المعاطاتي الذي يتم دون إجراء لفظ العقد بصيغته الشرعية التي ينبغي أن يقول البائع فيها: بعتك، ويقول المشتري: اشتريت. وكذلك العقود التي كانت في الجاهلية فإنها مبرزة للإرادة، فأقرّها الإسلام. ولكن عرف عن بيت رسول اللّه صلى الله عليه وآلهأنه انتقل من الأصلاب الطيّبة إلى الأرحام الطاهرة: « أشهد أنكم كنتم نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، لم تنجّسكم الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسكم من مدلهمّات ثيابها »[6].

فترعرع صلى الله عليه وآله في ذلك البيت الذي حنا عليه ؛ لأنه عاش يتيم الأبوين، فقد توفّي أبوه وهو في بطن اُمه، وتوفيت اُمه وعمره ستة أشهر، فحرم من عطف الأبوين. ولكن شاء اللّه أن يستبدله بحجر عوَّضَهُ ذلك العطف بل زاد على ما كان متوقعا، وهو حجر جده عبد المطلب رضى‏الله‏عنه، وبيت عمه أبي طالب رضى‏الله‏عنه، وحجر هذه المرأة الطاهرة الرائدة في دنيا الإسلام فاطمة بنت أسد (رضي اللّه عنها) التي كفلته وحملته. وكان صلى الله عليه وآله ينقل عنها أن أولادها يصبحون وقد يكون أحدهم متربا، في حين أنه صلى الله عليه وآله يصبح وقد دُهن شعره ورُجِّل وغسل واُلبس ثيابا جددا. وكانت تحرم أولادها من الطعام وتقدّمه له صلى الله عليه وآله. ولذلك كان يقول عنها: « اُمي »[7].

وعندما توفيت شيّعها صلى الله عليه وآله وقال لأمير المؤمنين عليه السلام: « إذا أدخلتها إلى القبر فأخبرني ». فنزل عليه السلام إلى القبر، ونزل رسول اللّه صلى الله عليه وآله معها، فكفّنها بردائه، وأضجعها بيده، وخرج والتأثّر بادٍ على وجهه، ثم قال: « أردت أن يخفف اللّه عنها ضغطة القبر وأن يقيها بردائي »[8].

أما عمه أبو طالب رضى‏الله‏عنه فقد وقف معه مواقف سوف نعرفها عندما نمرّ بالدور الثاني من حياته صلى الله عليه وآله.

فنشأ صلى الله عليه وآله وترعرع في هذا البيت الطاهر، ولم يألف مجتمعا من مجتمعات قريش التي كانت في مكة، وكان يتحنّف في طفولته. ويختلف المفسّرون والكتّاب في أنه صلى الله عليه وآله هل كان يتحنّف على الحنيفيّة التي هي ملّة إبراهيم الخليل عليه السلام، أو أن اللّه ألهمه أن يتحنّف على طريقته، لهم في هذه المسألة رأيان، وكل رأي له جماعته وأنصاره. لكن المهم أن النبي صلى الله عليه وآلهكان يخرج فيطيل النظر إلى السماء، ويقلب طرفه في الكواكب كأنه يتوقّع حدثا جديدا.

وكان صلى الله عليه وآله يخرج قبيل بعثته إلى غار حراء فيأخذ الإمام عليا عليه السلام معه آنذاك وهو لا يزال طفلاً صغيرا، يقول البوصيري في همزيّته:

ألِفَ النُّسك والعبادة والخَلــ *** ــوةَ طفلاً وهكذا النجباءُ

وإذا حلَّت الهدايةُ قلبا *** نشطت في العبادة الأعضاءُ[9]

فكان صلى الله عليه وآله يخرج هناك يدعو الله ويتضرع إليه، ويتأمل في الكواكب ويقلب طرفه فيها. ومكث هذه الفترة الطويلة في مجتمع قريش وليس هو معهم. وكان صلى الله عليه وآله يلقب بالصادق والأمين ؛ لأنه كان متّصفا بكلّ صفات الصدق والأمانة، بحيث إن قريشا كانت إذا أهمّها أمر رجعت إلى رأيه، وكانت تسميه المبارك.

يتبع…

_____________________

[1]  في 17 / ربيع الأول من عام الفيل.

[2]  قال تعالى على لسان الجن:  وَأَنَّا كنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابا رَصَدًا . الجن: 9.

[3]  انظر كل ذلك في مناقب آل أبي طالب 1: 27 ـ 31، اُسد الغابة 5: 52.

[4]  ديوان البوصيري: 9.

[5]  تهذيب الأحكام 7: 472 / 1891، المهذب ابن براج: 255.

[6]  مصباح المتهجد: 721 / 807.

[7]  المعجم الكبير 24: 351، المعجم الأوسط 1: 67، كنز العمّال 13: 335 ـ 336 / 37607.

[8]  قريب منه في عين العبرة: 68، المستدرك على الصحيحين 3: 108، كنز العمّال 13: 135 ـ 636 / 37606 ـ 37607.

[9]  ديوان البوصيري: 9.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة