كشكول الوائلي _ 68

img

الاسكندر والراعي

مرّ الإسكندر يوما ومعه جيوشه الهائلة على رجل يدعو، وكان منغمرا ذائبا بالدعاء، ولم يتحرك أبداً أمام جيش الإسكندر، فدنا الإسكندر منه وقال: لمَ لمْ تتحرك؟ ألم تخف من هذا الجيش وهذه العدة وصكصكة اللجم وصليل السلاح؟ أما أرعبك هذا؟ قال: لا. قال: لماذا؟ قال: كنت مع من هو أكبر منك، كنت مع اللّه.

فهزت هذه الكلمة الإسكندر، وقال له: واللّه مثلك فليدّخر، إني اُحبّ أن أصطحبك معي. قال: لا، أنا لا أستطيع أن أذهب معك. قال: لماذا؟ قال: هل تستطيع أن تعطيني حياة ليس معها موت، وتعطيني عافية ليس معها مرض، وتعطيني غنى ليس معه فقر؟ قال: كلا، هذا شيء لا أستطيع أن اُؤمّنه حتى لنفسي. فقال: أنا مع من يؤمّنه لي، فاللّه عز وجل يستطيع أن يعطيني هذه الأشياء.. يعطيني عافية بلا مرض، ويعطيني حياة بلا موت، ويعطيني غنى بلا فقر، فلماذا أترك اللّه وآتي معك؟

تأبين السيد عبد الأعلى السبزواري رحمه‏الله

إنا للّه وإنا اليه راجعون، بمزيد من الأسى واللوعة ننعى علما من أعلامنا، ورائدا من روّاد الحركة العلميّة، وإماما من أيمّة الفقه، ورجلاً مجاهدا مرت عليه هذه السنون وهو في طريق الصمود إزاء ما كان يحدث داخل العراق.

من ملامح شخصيّته الشريفة

كان الرجل غاية في الصلابة في موقفه، ولقد تميز بجملة من المميزات، منها:

الأوّل: التحقيق والتدقيق

فقد عرف بالتحقيق من بواكير عمره، فحينما كنت طفلاً، كان السيد مستأجرا لأحد بيوتنا وهو بيت الشيخ مهدي الكاظمي رحمهم‏الله، في منطقة العمارة مقابل آل الشيخ راضي، فكنت أخرج صباحا إلى بيت اُختي فأراه وأرى مجلسه حاشدا ؛ لأن باب مكتبه « البراني » الذي يجلس فيه يكون مفتوحا عادة، فكنت أرى رجالاً ووجوها من طلاب العلم كان يتولّى تدريسهم.

وبعد ذلك كانت لي به صلة أيضا، فقد كانت لدينا قطعة في الكوفة فيها مشتمل مقابل بيت السيد الخوئي قدس‏سره[1]، فسكنه إلى أن ألجؤونا إلى إخراجه منه. فكنت على تماسّ به إلى حد ما.

الثاني: بروز الجانب الفلسفي عنده

لقد كان كثير الصمت قليل الكلام، وكانت كلماته غاية في الانتقاء، وأداؤه غاية في الروعة والدقّة. وقد عرف من بواكير عمره أنه بارع في تدريس الحكمة الإلهية، وهذا ما انعكس في مؤلّفه الثمين (مواهب الرحمن في تفسير القرآن). فقارئه يلمس الروح العرفانية واضحة في أدائه قدس‏سره.

الثالث: الصلابة والحدية

وقد عرف أيضا بالصلابة في رأيه، فلم يكن يحيد عن رأيه، فقد مرت هذه النكبات، وتعرض فيها للكثير من الضغوط، فما لان ولا انهار، وواصل مسيرته العلمية، فكان له الباع الطويل في الفقه والتفسير. وكان من المأمول أن يمد اللّه في عمره ليكمل مسيرة التفسير الذي صدر منه إلى الآن أحد عشر جزءا، حيث إن الأجزاء الباقية كانت في طريقها إلى الصدور. وفي تفسيره لفتات غاية في الروعة، وعطاء غاية في الثراء؛ فهو إلى جانب الفقه والحكمة كان ضليعا في التفسير، كبيرا في الأخلاق، عظيما في النفس، على خط آبائه الطاهرين وأجداده المنتجبين عليهم السلام. وقد شاء اللّه لهذه الحياة الحافلة الحاشدة أن تُختتم في مثل هذا اليوم في ليلة وفاة جدّه رسول اللّه صلى الله عليه وآله ليلتحق به.

ولئن انتقل علم من أعلامنا فلله الحمد، إن « ديار علي والحسين وجعفر »[2] غنية بالعطاء من الأفذاذ الذين سوف يملؤون الساحة، ولئن رُزئنا بالتدريج بهم واحدا بعد واحد، فإن أملنا بالله عزّ وجل أن يمدّ بأعمار قادتنا الموجودين، كالسيد الگلبايگاني[3] والسيستاني (أمد اللّه في عمرهما)، وباقي مراجعنا العظام في النجف أو في قم أو في أي مكان. واللّه وحده نسأل أن يمدّ في أعمارهم وأن يأخذ بأيديهم لنشر فكر آل محمد صلى الله عليه وآله، ولإكمال مسيرتهم في طريق العطاء وحمل هذه الأمانة والرسالة المقدّسة. وما خلت لنا مدرسة في يوم من الأيام، ولن تخلو ما دمنا في ظلال آل محمد صلى الله عليه وآله، وفي ربيعهم وفكرهم عليهم السلام؛ فالله وحده هو المسؤول أن يعوّضنا عن هذه الخسارة الفادحة.

ولئن تعرَّض إلى الضغط في حياته فقد تعرّض له بعد وفاته[4] ؛ فما سُمح لجنازته أن تشّيع في هذا اليوم إلاّ على مستوى أفراد قلائل، ونقل من الصحن الشريف إلى المقبرة لبضع خطوات، حيث ووري عند أمير المؤمنين عليه السلام وفي ظلّ حامي الحمى. (فرحم اللّه تلك الروح الطاهرة، وأغدق عليها شآبيب رحمته). فعزاؤنا لأيمّة المسلمين وقادتهم وللحوزة العلمية التي نأمل أن تكون منجبة لأكثر من واحد وواحد، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، وإنا لله وإنا اليه راجعون.

يتبع…

________________

[1]  توفي في 8 / 2 / 1412 ه.

[2]  صدر بيت عجزه: وحمزة والسجّاد ذي الثفنات. ديوان دعبل الخزاعي: 38.

[3]  توفي في 26 / 2 / 1414 ه.

[4]  توفي في 27 / 2 / 1414 ه.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة