كشكول الوائلي _ 59

img

الحرمات التي أحاط اللّهبها الكعبة الشريفة

فمعلوم أن الكعبة الشريفة أحاطها اللّه‏ بجملة من الحرمات؛ والغرض من ذلك تبيان أهمّيّتها وعظمتها. وهذه الحرمات خمسة:

1 – البيت الحرام.

2 – المسجد الحرام.

3 – البلد الحرام.

4 – الحرم المحيط بالبلد.

5 – الزمن الحرام، وهو الشهر الذي يقام فيه الحجّ .

فقد اجتمعت الحرمات في الزمان والمكان لتنسج سياجا حول الكعبة يعطيها حرمة ومكانة في نفوس المسلمين حتى يعرفوا أهمّيّتها.

ومن المؤسف أن الذي يمرّ بتأريخنا يرى أن هذه الكعبة التي لها هذه الحرمات لم يصُنها المسلمون، ولو كان جبل «أبو قبيس» يتكلّم لشهد يوم أنهم قد وضعوا عليه المنجنيقات، وهيّؤوا لفائف النفط وأوقدوها بالنار، ثم وجّهوها إلى الكعبة فأحرقوا أستارها، ووجهوا الحجارة صوبها، فراحت الصواعق تنزل من السماء، فرأى الحجّاج جنده وقد اضطربوا، فقال لهم: ما لي أراكم تضطربون؟ أنا ابن تهامة، وهذه صواعق تهامة ولا تضرّ شيئا، ارموا. فرمى الكعبة حتى هدم
جدرانها[1]. وهناك أكثر من واقعة وواقعة استبيحت بها حرمات الكعبة[2] التي رسمها اللّه‏ حولها وأراد منا أن نعظّمها؛ لأن هذا البيت هو مهد انطلاقتنا، وقد جعله اللّه‏ مركز هدايتنا، وهو المكان الذي انطلق منه صوت التوحيد، والذي انبعث منه الإشعاع. يقول أحد الاُدباء:

غمر الأرض بأنوار النبوهْ *** كوكبٌ لم تُدرك الأرضُ علوّهْ

لم يكد يطلعُ حتى أصبحت *** ترقبُ الدنيا بمن فيها دُنُوَّهْ

بينما الكونُ ظلامٌ دامسٌ *** فُتحت في مكةٍ للنور كوّهْ

والواقع هو هذا، فالعالم كان يغطّ بالجهل، ويغرق بالتخلّف، فانبعثت أصوات الهداية والنظام والنور من هاهنا. فحرمات اللّه‏ على هذا الرأي هي هذه الخمسة التي سُيّجت بها الكعبة؛ لأن اللّه‏ أراد أن يشعرنا بأن هذا البيت يجب أن يحظى باهتمامنا وتعظيمنا وتكريمنا، وألاّ نستهين به؛ ولذلك أعطاه اللّه‏ ألوانا من الحرمة،
منها هذه الخمسة. وحرّم كذلك ما يجري بداخله، فهناك أشياء يعملها الإنسان في الخارج وقت الإحرام، لكنه لا حقّ له أن يمارسها داخله؛ وذلك ليشعر بأن هذا المكان له لون من القداسة، فينبغي أن يتقيّد الإنسان إزاءه. فحينما تكون في وضع لا يمكنك فيه أن تقتل برغوثا داخله، فإنك تستشعر السلام وعدم إراقة الدماء، فترى فيه قاتل أبيك ولا ترفع يدك ولا تتكلّم؛ لأن هذا المكان يجب أن ينطلق منه الشعور بالأمن والأمان والسلام، وكان دعاء إبراهيم ((رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ [3])). فهذا المكان لا يوحّد فيه إلاّ اللّه‏، وليس للأصنام فيه مكان، والأصنام ليست أصنام الحجر والخشب فقط، وإنما يعبد الإنسان أحيانا صنما من العصبيّة في داخله، فهو يرى الواقع أمام عينه غير ما يعتقد، ومع ذلك يظلّ على اعتقاده فينسب للآخرين ما تحقّق من عدم وجوده عندهم. وهذه عبادة لصنم العصبيّة والهوى[4].

فالآية أرادت تعظيم الحرمات، فقالت: ((فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ )) فمن عظّم هذه المناسك واستشعر أهمّيّة البيت وآمن بحكمة مناسكه فلا شك أن اللّه‏ سوف يعطيه جزاءه. فاللّه‏ لم يكلّفنا بعمل إلاّ ووضع لنا مقابله جزاءً، ففائدة العمل هي للإنسان، ولكن مع ذلك يعطينا الجزاء، فهو يعلّمنا أن نعطي كلّ عامل جزاءه، وألاّ نسرق عاملاً؛ بأن يعمل ثمّ لا يأخذ أجره.

جاءتني رسالة من إحدى الأخوات تقول فيها: أنا زوجة صالحة وتقيّة، وعندي أطفال من زوجي، لكنه لا يعطينا نفقة لا لي ولا لأطفاله. فماذا أعمل؟ هل أبيع كرامتي؟

انظر إلى هذا، أما يدري أن معظم عذاب القبر من سوء الخلق مع العيال؟ وأن الروايات منصبّة على أن من يسيء إلى أهله لا يترك اللّه‏ له هذه الإساءة، وسوف يعطيه جزاء عمله السيّئ[5]؟ فاللّه‏ علّمنا أن لكلّ عمل جزاءً، فمن يأخذ ولا يعطِ فهو الظالم المبتزّ.

يتبع…

__________________

[1] سنن ابن ماجة 1: 623 / 1936، الأخبار الطوال: 314، تاريخ اليعقوبي 2: 266، تاريخ الطبري 5: 30، تهذيب التهذيب 2: 184 / 388، 10: 141 / 297، الكامل في التاريخ 2: 135 / 3، البداية والنهاية 8 : 363، سبل الهدى والرشاد الشامي 6: 214 .

[2] وذلك حين مات معاوية وامتنع ابن الزبير من البيعة ليزيد وأصرّ على ذلك، فأغرى يزيد مسرف بن عقبة بالمدينة، فكانت وقعة الحرّة ثم توجّه الجيش إلى مكة فمات مسرف وقام بأمر الجيش الشامي حصين بن نمير، فحصر ابن الزبير بمكة ورموا الكعبة بالمنجنيق حتى احترقت، ففجأهم الخبر بموت يزيد بن معاوية، فرجعوا إلى الشام. انظر: التاريخ الكبير 3: 4 / 12، وقد ضعّف السند، تاريخ اليعقوبي 2: 251 – 252، تاريخ مدينة دمشق 41: 385، تهذيب الكمال 6: 548 / 1376، سير أعلام النبلاء 3: 374، فتح الباري 8: 245، تهذيب التهذيب 2: 187 / 338، 10: 141 / 297، 11: 316 / 600، ينابيع المودّة 3: 36 .

[3] إبراهيم: 35 .

[4] قال تعالى: أرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ ، الفرقان: 43 .

[5] قريب منه في الاعتقادات: 59 .

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة