كشكول الوائلي _ 57

img

نماذج من المعمرين

ابن بقيلة أدرك بحر النجف

يروى عن سلمان المحمدي أنه عاش (350)، عاما وهذا ما ترويه معظم الكتب التاريخيّة[1]، ويكاد يكون هناك تواتر معنوي[2] في هذه المسألة.

ويروى أن سعد بن أبي وقاص لمّا فتح الحيرة، فتح بابه وسمح للناس أن يدخلوا عليه، فدخل عليه عبد المسيح بن بقيلة الغسّاني، وكان مسنّا، فقال له سعد: ماذا تتذكر من الأحداث والأشياء التي مرّت بك؟ قال: أذكر أن المرأة كانت تخرج من الحيرة تضع مِكتَلَها على رأسها، ولا تتزوّد بشيء حتى تصل الشام لأنها كلّها كانت قرىً معمورة، ثم عادت خرابا يبابا، وذلك دأب اللّه‏ في العباد. فقال له سعد: وبعد؟ قال: أدركت سفن البحر تقف على هذا الجرف[3]. ويعني به: جرف البحيرة إلى جانب النجف. ويبدو أن هذه البحيرة استمرّت إلى أيّام العباسيّين؛ لأن فائيّة إسحاق بن إبراهيم الموصلي تذكر هذا؛ حيث يقول فيها:

ما إن رأى الناسُ في سهلٍ وفي جبلٍ *** أصفى هواءً ولا أعذى من النجفِ

كأن تُربَتَهُ مِسك يفوحُ به *** أو عنبرٌ دافَهُ العطّارُ في صَدفِ

حُفَّت ببرٍّ وبحر في جوانبها *** البحرُ في طَرفٍ والبرُّ في طرفِ[4]

فكانت النجف محاطة بالبحر، وكان هذا المعمَّر قد أدرك سفن البحر التي كانت تأتي إلى هنا، وراح يحدّث عن أشياء لها تأريخ طويل.

أروى بن سلم

وهناك روايات عن المعمَّرين كثيرة، منها أن سيلاً جاء أيام عبد الملك فكشف عن وادٍ من أودية اليمن كان فيه مغارة، فدخلوا إلى المغارة فوجدوا فيها سريرا عليه جثّة مسجّاة، وعند الرأس لوح مكتوب عليه: «أنا أروى بن سلم، عمّرت ألف سنة وملكت كذا مدينة، وتزوّجت كذا امرأة ثم صار آخر أمري أن التراب فراشي، والديدان جيراني، فمن رآني فلا يغترّ بالدنيا كما غرّتني»[5].

لكن هل تثبت هذه الروايات أمام النقد أم لا؟ إنها ليست من الكثرة التي تفيد الاطمئنان، فهي على كلّ حال محلّ تأمّل، ولكن يمكن أن يكون واحد أو اثنان من الناس قد شذّوا عن القاعدة الطبيعيّة في الأعمار.

ويقال الآن: إن معدل الأعمار أصبح أكبر ممّا كان عليه بسبب القضاء على الأمراض والأوبئة، وارتفاع مستوى المعيشة، ووجود الأدوية.

فإن وصل الإنسان إلى هذا الحدّ من العمر (70 ـ 80 ) عاما، فهو سيشعر أنه لا بد أن يعطي هذا المكان لغيره شاء أو أبى، فإن لم يعطِ مكانه لغيره فلن يمكن للحياة أن تستقيم. والآن يعاني المختصّون من وجود ظاهرة التفجّر السكاني، وهي ظاهرة تخيف الاُمم المتّحدة؛ لأنه إن استمرّ هذا التفجّر فسيؤدّي إلى أننا سوف لن نجد شبر أرض للسكن بعد أيام.

تروي الروايات أن النبي عيسى عليه السلام مرّ يوما باثنين يتصارعان ويتنازعان، فسألهما عن السبب، فأجابا أنهما يتنازعان في قطعة من الأرض، فقال عيسى عليه السلام : «لو أحييت لكم مَن مَلَك هذه الأرض، لما وجدتم فيها موطئ قدم».

فان استمرّ هذا التفجّر السكاني فإن الأمر يصل بالناس إلى أنهم سوف يتنازعون في الشبر من الأرض، ولكن اللّه‏ شاء أن يخرج الإنسان من هذه الدنيا، وعندما يخرج فعليه أن يعرف أنه ذاهب إلى مصدر الكرم والعطاء، بل إلى مصدر الرحمة المطلقة. ولهذا تجد أن الواثقين بما عند اللّه‏ وعطائه في لحظاتهم الأخيرة لا يبدو عليهم شيء من الانفعال أو التأثر؛ لأنهم يعرفون أنهم يخرجون من مكان هو مزبلة بالقياس إلى ما هم ذاهبون إليه. والذي يرعبهم فقط هو ذاك التراب الذي سينتقلون إليه بعد الفراش الوثير والوسادة الناعمة والقصر الفخم.

وفي الحقيقة إن الذي يذهب إلى التراب هو الجسد، أما الروح فتذهب إلى خالقها واهب الحياة، والجسد كان منتزعا من التراب فيعود إلى التراب؛ فهو وديعة:

وما المال والأهلون إلا ودائعٌ *** ولابدّ يوما أن تُردّ الودائعُ[6]

فالآية تقول: تنبّهوا إلى أن طول العمر ليس دائما في مصلحتكم، فأنت ترى بنفسك اليوم من الناس من يكون الموت له زينة، فهو لا يسمع ولا يبصر ولا يتحرّك، فينتهي به الأمر إلى أن يصبح عالة يثقل على الناس من أهله وأعزّ أحبّائه. فالموت يكون لمثل هذا نعمة. واللّه‏ يريد أن يضع أيدينا على هذه الحقيقة فيقول: ((وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُـنَكسْهُ فِي الخَلْقِ )) ؛ ولذا كان النبي صلى الله عليه وآله يتعوّذ باللّه‏ من أن يرجع إلى أرذل العمر[7]. وكان العرب يتمدّحون بقصر الأعمار، فيتصوّرون أن الذي يطول عمره هو الجبان، فالشجاع عمره قصير. وهذه نزعة من النزعات التي كان يفرضها محيطهم، فهي إن كانت في طريق المجد فلا بأس بها، أما إذا كانت في طريق آخر فهي حتما سُبّة.

يتبع…

___________________

[1] الفصول العشرة المفيد: 102، تحفة الأحوذي 5: 249 .

[2] التواتر المعنوي هو: اتفاق الرواة على نقل مضمون واحد مع اختلاف الألفاظ؛ سواء كانتدلالة الألفاظ على المضمون بالمطابقة، أو بالتضمّن، أو بالالتزام، أو بالاختلاف. مصباح الاُصول الخوئي 2: 192 .

[3] أمالي المرتضى 1: 188، الغيبة الطوسي: 118، بحار الأنوار 51: 281 .

[4] معجم البلدان 5: 271 ـ النجف .

[5] كمال الدين وتمام النعمة: 524 ـ 525، بحار الأنوار 14: 22، باختلاف في مورد القصّة؛ إذ فيهما: عن الصادق جعفر بن محمد عليهماالسلام أنه قال في حديث يذكر فيه قصّة داود عليه السلام: «إنه خرج يقرأ الزبور، وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر إلاّ جاوبه، فانتهى إلى جبل فإذا على ذلك الجبل نبي عابد يقال له حزقيل، فلما سمع دويّ الجبال وأصوات السباع والطير علم أنه داود عليه السلام، فقال داود عليه السلام: يا حزقيل تأذن لي فأصعد إليك؟ قال: لا. فبكى داود، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا حزقيل لا تُعبر داود، وسلني العافية. قال: فأخذ حزقيل بيد داود عليه السلام، فقال داود: يا حزقيل، هل هممت بخطيئة قط؟ قال: لا. قال: فهل دخلك العُجب بما أنت فيه من عبادة الله؟ قال: لا. قال: فهل ركنت إلى الدنيا، فأحببت أن تأخذ من شهواتها ولذّاتها؟ قال: بلى، ربما عرض ذلك بقلبي. قال: فما كنت تصنع إذا كان ذلك؟ قال: أدخل إلى هذا الشِّعب فأعتبر بما فيه. قال: فدخل داود عليه السلام الشِّعب فإذا سرير من حديد عليه جمجمة بالية وعظام فانية، وإذا لوح من حديد فيه كتابة، فقرأها داود عليه السلام فإذا فيها: أنا أروى بن سلم، ملكت ألف سنة، وبنيت ألف مدينة، وافتضضت ألف بكر، فكان آخر عمري أن صار التراب فراشي، والحجارة وسادتي، والديدان والحيّات جيراني، فمن رآني فلا يغترّ بالدنيا» .

[6] مجمع البيان 4: 120، لسان العرب 4: 602 ـ عمر .

[7] مغني المحتاج 1: 596، سبل السلام 1: 197، نيل الأوطار 2: 349 .

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة