كشكول الوائلي _ 56

img

من مظاهر الهرم عند الإنسان

ولم أجد أروع من الصورة التي رويت لأحد الأعراب من كبار السنّ مع الحجّاج حينما دخل عليه، فقال له الحجاج: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت واللّه‏ تقيّدني الشعرة، وتسقطني البعرة. فقال الحجاج: هذا أنت في مشيك، فكيف أنت في قيامك وقعودك؟ فقال: إذا قمت فكأنما لصقت بي الأرض، وإذا جلستُ فكأني أهوي في وادٍ سحيق. قال الحجاج: فكيف أنت في نَدَواتِك؟ قال: أنام بالمجمع، وأسهر بالمضجع. فقال الحجاج: ورغباتك الاُخرى، كالطعام والفراش وغيرها؟ قال: إذا بُذلت لي عجزت، وإذا مُنعتُ عنها شرهت[1].

وهذا في الواقع هو الجانب الأخفّ من المصيبة، أو الوجه الأوّل من العملة، أما الوجه الثاني فهو أشدّ، وهو الآلام النفسيّة والتي منها أنه يشعر بوحشة، لأن لداتِه[2] الذين كانوا معه من رفاق الصبا وزملاء الدراسة ذهبوا جميعا، فلا يجد من أحبائه أحدا، فتصبح الدنيا وحشة في عينيه، يقول الشاعر:

إذا ما انقضى الجيلُ الذي أنتَ فيهُمُ *** وخُلِّفتَ في جيلٍ فأنت غَريبُ[3]

فقد كان له أصحاب يسودهم جميعا انسجام وترابط عاطفيّ وتجارب وصلات، لكنهم ذهبوا، فيبدأ يشعر بالفراغ الشديد. وقد كان أمير المؤمنين يشعر بالغربة، يقول حبة العرني: كنت أراقب أمير المومنين، فكان يخرج إلى الجبّانة (المقبرة)، فيقف عليها فترة ثم يجلس ينبش التراب بأنامله ويقرأ:

وبالنفس لُباناتٌ *** إذا ضَاق لها صدري

نكتّ الأرض بالكفِّ *** وأبديتُ لها سِرّي

فمهما تُنبتُ الأرضُ *** فذاك النبتُ من بَذري[4]

فكان الذين يمرّون بهذه الظاهرة في حياته يرون أن الإمام عليه السلام لم يكن منسجما مع مجتمعه كثيرا، وأنه عليه السلام كان ينطوي على آلام في نفسه لا يقدر على بثّها لكلّ أحد، فكان يتأ لّم ويخرج لينفّس عمّا يعتمل في نفسه. والأمر ليس كذلك؛ إذ أنه عليه السلام إنما كان ينبش الأرض لأن أحبّاءه كلّهم في التراب، فعمّار وسلمان وأبو ذرّ وابن بديل وصعصعة وغيرهم كلّهم في التراب، فكان ينشد السلوى في ذلك التراب؛ فهو يرى أن بمروره على التراب ستتراءى له تلك الوجوه وتلك الصور، وتلك الأوطار التي مرّت به.

ومن الآلام التي يشعر بها الرجل المسنّ أيضا الإحباط الذي يصيبه، ومعنى الإحباط أنه يرى أن وظيفته في الحياة قد شُلَّت، فلا يستطيع أن يمارس حياته بالشكل الذي كان يمارسه سابقا، فإذا كان كذلك فإنه يشعر بالاحباط، فهو مثلاً كان يقوى على أن يرد يد الضارب، فأصبح لا يقوى على ذلك. يقول الشاعر:

لئن اُرعِشت كفّا أبيك وأصبحت *** يداك يدا ليثٍ فإنك جاذبهْ[5]

ومن تلك الآلام أنه يشعر بالقرب من فراق الحياة، وهي نقطة مهمّة جدّا، فهو قد غدا قريبا من الرحيل، ولديه ارتباطات في الدنيا، فعنده دار وأولاد وأشغال تجاريّة لم تنتهِ، وأعمال، فهو يدير وجهه إلى ما تركه وراءه.

فهذا الإحباط والألم والشعور بقرب الفراق والانتقال وترك ما جمع، كلّها أشياء تترك عنده ألما نفسيّا لا حدود له، فيجتمع الألم الجسدي مع الألم النفسيّ.

فالقرآن يقول لهم: إن اللّه‏ أجرى في قوانينه التكوينيّة أن الإنسان تبدأ خلاياه بالهرَم والتلاشي ويؤول الأمر به إلى الضعف، فإن وصل إلى هذا الحدّ فماذا يستطيع أن يفعله لآخرته حتّى يتمنى طول العمر؟

هذه ناحية، ومن ناحية ثانية فإن الإنسان لا يكره الحياة، وهذه من الأسرار التي أودعها اللّه‏ في خلقه؛ لأن الإنسان إذا كره الحياة شُلّت أعماله، فيتوقّف نموّ الحياة. وهذا خلاف الحكمة التي من أجلها استعمرنا اللّه‏ تعالى في الأرض[6]. ولذا تجد أمل الإنسان لا يقف عند حدّ، فمهما طال به العمر فلديه الأمل في أن يتجدّد. صحيح أنك قد تجده يتذمّر أحيانا من ثقل الحياة لكنه في الواقع لا يريد مفارقتها، ورحم اللّه‏ أبا الطيب المتنبي إذ يقول:

ولذيذُ الحياةِ أنفس بالنفـ *** ـسِ وأشهى من أن يُمَلَّ وأحلى

وإذا الشيخُ قال اُفٍّ فما مَـ *** ـلَّ حياةً لكنما الضعفَ ملاّ[7]

فالحياة عزيزة على الإنسان، وما أكثر ما قرع القرآن الكريم أسماعنا: ((وَإنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [8]))! فهو يقول: إن هذه العناية التي
تولونها لشيء ستفارقونه ليتكم تعطونها لمستقبل حياتكم، وهي الدار الآخرة التي هي الحياة الحقيقية، والدنيا ما هي إلا محطّة للمرور، وسوف يُخلى المكان للآخرين. وهذا الأمر واضح جدا ولا يحتاج إلى مزيد من التوضيح والبرهنة.

ولدينا هنا نقطة مهمّة من المناسب الإشارة إليها، وهي أن معدّل الأعمار لا يبلغ أكثر من الثمانين، وقد يزيد العمر قليلاً أو ينقص، لكن المعدل التقريبي هو هذا. فهل هناك ما يدعم الروايات والأخبار التي وردت بطول الأعمار لبعض الناس؟ فلدينا من الأنبياء من عاش عمرا طويلاً مثل نوح عليه السلام الذي يقول عنه القرآن: ((فَلَبِثَ فِيهِمْ ألْفَ سَنَةٍ إلا خَمْسِينَ عَاما [9]))، وهذا زمن الدعوة لقومه فقط.

وتوجيه هذه المسألة أنها مسألة غير طبيعية، فاللّه‏ تعالى لابد أنه قد تدخّل في الموضوع، فيكون هذا إعجازا وليس من الطريق الطبيعي. والمعجزات محيطة بنا، فأنت ترى مثلاً كرة تكبر الأرض آلاف المرات وهي معلقة في الهواء، فما هو الهواء؟ وما هي مادّته؟ إن قيل: ذلك بتأثير الجاذبيّة أو القوّة الطاردة، فما ماهيّة الجاذبيّة أو تلك القوّة؟ إن هذا هو عين الاعجاز، وعين أصابع الخالق التي هي من وراء هذا العمل.

يتبع…

___________________

[1] شجرة طوبى 1: 37، وقال الشاعر:

وأصبحت كنتيا وأصبحت عاجنا  وشرّ خصال المرء كنت وعاجن
والكنتي: الذي يقول: كنت كذا وكنت كذا، والعاجن: الذي ينهض معتمدا على الأرض بيديه من الكبر.

   انظر الصحاح 6: 2161، الجامع لأحكام القرآن 19: 274.

[2] اللِّدة: التِّرب. مختار الصحاح: 47 ـ شرب، لسان العرب 3: 469 ـ ولد .

[3] الأمالي المفيد: 316، شرح نهج البلاغة 7: 6، 18: 21، الجامع لأحكام القران 6: 319 .

[4] فضل الكوفة ومساجدها المشهدي: 65، بحار الأنوار 4: 200، 97، 9: 452 .

[5] ديوان الفرزدق: 105 .

[6] ولذا قال الإمام الكاظم عليه السلام: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» الفقيه 3: 156، ونسب للرسول صلى الله عليه وآله بلفظ: «احرث لدنياك …». النهاية في غريب الحديث 1: 346 ـ حرث .

[7] ديوان المتنبّي 2: 405 .

[8] العنكبوت: 64 .

[9] العنكبوت: 14 .

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة