كشكول الوائلي _ 55

آخر عمر الإنسان
(( وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُـنَكسْهُ فِي الخَلْقِ أفَلا يَعْقِلُونَ [1]))
سبب نزول الآية
قبل نزول هذه الآية الكريمة دار حديث عند شريحة كبيرة من الناس من أهل المدينة مفاده أن أعمارنا التي نعيشها قليلة، فلا تتوفر لنا مدّة كافية نرجع فيها إلى اللّه عز وجل، فلو طالت أعمارنا لكان أفضل. فالآية نزلت ولها ارتباط بما كان يدور، وهؤلاء ليس عندهم جديد في دعواهم، فمن أراد الرجوع إلى اللّه فيمكنه الرجوع إليه ولو عاش يوما واحدا، أما دعوى أن هذه الأعمار صغيرة ولا مجال فيها للعودة إلى اللّه فهذا لون من ألوان إلقاء المسؤولية على عاتق القضاء والقدر.
هذه ناحية، أما الناحية الثانية فالآية تقول لهم: إنكم في الوقت الذي كان فيه عندكم قدرة على أداء واجباتكم لم تفعلوا شيئا ولم تتقرّبوا إلى اللّه، فكيف تدّعون الآن أن أعماركم لو طالت لتقرّبتم؟ فأنتم قد مرّت بكم فرصة الشباب والطاقات ومع ذلك ضيّعتموها. فالإنسان منذ بلوغه وحتى الخمسين تقريبا قادر على فعل كثير من الأشياء، فهو في هذه الفترة يمتلك طاقة عالية وإن كانت على تفاوت، فيستطيع أن يصل بها إلى أداء عمله وواجبه والسعي والحركة والنشاط. فكيف يترك الإنسان هذه الفترة تضيع ثم يقول بعد ذلك: لم لا يطول عمري؟ ولذا يقول أمير المؤمنين في خطبته: «ليغتنم كلّ مغتنم منكم صحّته قبل سقمه، وشبيبته قبل هرمه، وسعته قبل فقره، وفرغته قبل شغله، قبل تكبّر وتهرّم وتسقّم، يملّه طبيبه ويعرض عنه حبيبه»[2].
فهو عليه السلام يقول: إنكم في هذه الفترات من الطاقة التي تمرّ عليكم لا تضمنون أنها ستبقى، فلم لا تغتنمون الفرصة في استثمار هذه الطاقات؟ دعوا هذه التعليلات من أننا لو قُدّر لنا أن يطول بنا العمر لرجعنا إلى اللّه.
هذا هو الجوّ العامّ للآية، التي تقول: ((وَمنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكسْهُ في الخَلْقِ))، فالزمن الذي يبدأ به الانحدار الواضح بالنسبة إلى العمر، والتناقص في الطاقات عند الإنسان يكون بعد الخمسين. وهذا ما يقرّره علماء الصحّة، فتبدو مظاهر الهرم والكبر، فالجِلد تقلّ به الرطوبة، وتبدو عليه اليبوسة بسبب قلّة الخلايا الدهنية. والأعضاء يعتريها الانحلال، والعظام تصيبها الهشاشة، والكلى وباقي الأعضاء يحصل في أدائها قصور، بالإضافة إلى أعراض الشيخوخة التي يدرسها ويوضّحها ويشرحها الطبّ. ولذا فإن علماء الكيمياء الحيوية يضاعفون جهودهم حينما يبلغ الإنسان الخمسين للتعرف على ما يقيه من أمراض الشيخوخة. وكذلك يفعل علماء الغدد الصمّ والخمائر، وفعلاً ألقوا أضواء كبيرة على هذا الدور الذي يمرّ به الإنسان؛ تحاشيا لما قد يصيبه من الهرم، وللتقليل من آثار الهرم.
فالآثار من الناحية الجسدية تكون واضحة، فحركة الإنسان تصبح ضعيفة، وطاقاته على السعي تضمر، واستقباله للحياة يقلّ ويتلاشى. وهذه الصورة يسجّلها الشاعر عمرو بن قميئة بقوله:
كأني وقد جاورت تسعين حِجةً *** خلعت بها عني عِذار لِجامي
على الرَّاحتين مرةً وعلى العَصا *** أنوءُ ثَلاثا بَعدَهُنَّ قيامي
رمتني بناتُ الدهر من حيث لا أرى *** فكيف بمن يُرمى وليسَ بِرامِ[3]
وهذه صورة واضحة من صور الضعف التي يراها الإنسان في كبره، فحركته تكون ضعيفة، وهذا المعنى يأخذه شاعر آخر فيقول:
المرء يأمل أن يعيـ *** ـشَ وطولُ عيش قد يضرُّهْ
تفنى بشاشتُه ويبـ *** ـقى بعد طولِ العيش مرُّهْ[4]
فحلاوة العيش في الشباب تذهب، ويبقى الإنسان يجترّ الآلام التي مرت به؛ لأن أيّام الرغد قد ذهبت عنه. ورحم اللّه الشريف الرضي حيث يقول:
وتداولُ الأيامِ يُبلينا كما *** يُبلي الرِّشاءَ تطاولُ الأَرحاءِ[5]
فالبئر كلّما كانت عميقة، وكان حبل الرشاء طويلاً، كلّما كان أسرع إلى البلى، ولتطاول الأيّام التأثيرُ عينُه علينا.
يتبع…
___________________________
[1] يس: 68 .
[2] من خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام خالية من الألف. انظر شرح نهج البلاغة 19: 141، كنز العمّال 16: 210 ـ 211 .
[3] أمالي المرتضى 1: 35، الجامع لأحكام القرآن 16: 172، تاريخ مدينة دمشق 25: 387، 37: 159 .
[4] البيتان لأبي العتاهية، وتمامهما:وتخونه الأيّام حتـ ـى لا يرى شيئا يسرّهْكم شامتٍ بي إن هلكـت وقائلٍ لله درهْ شرح نهج البلاغة 8: 293.
[5] ديوان الشريف الرضي 1: 26 .