كشكول الوائلي _ 53

img

بسر بن أرطاة…

لكن تعال معي إلى المعادن والعناصر التي هي عند الناس، فمثلاً عندما دخل بسر بن أرطاة مندوب معاوية إلى اليمن هرب واليها عبيد اللّه‏ بن العباس، فأمسك بولديه الصغيرين قثم وعبد الرحمن بعد أن لاذا ببيت من البيوت، وهذا البيت بدلاً من أن يحميهما عرضهما إلى القتل، فجاء بسر وذبحهما على درج صنعاء، وكان أحدهما ابن ست والآخر ابن سبع. في حين أن أقطاب قريش كانوا تحت قبضة النبيّ صلى الله عليه وآله يوم الفتح، وكان بوسعه أن ينتقم منهم أبشع انتقام، لكنه أمر أصحابه ألاّ يُتبعوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح، ولا يهيجوا النساء بأذى، ونادى مناديه: «من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن». وعفا عنهم، ولم يصنع معهم سوى أنه بكتهم ووبّخهم ببضع كلمات[1].

ولأمير المؤمنين عليه السلام مواقف كثيرة من هذا النوع مع ألدّ أعدائه، وقد كانت قمّة في العطف والصفح[2]. وكذلك الإمام الحسن عليه السلام الذي يعرف من هو مروان، ومع  ذلك حينما يقف له مروان بباب المسجد ويقول له: اُريد أن تتنازل لي عن هذه البغلة وعن … وعن …، يقابله الإمام بكلّ خلق رفيع[3].

ولا نذهب بعيدا، ففي واقعة الطفّ يلتقي الحسين عليه السلام ألف فارس مع الحرّ، فيلتفت إلى أصحابه فيقول لهم: «املؤوا القصاع والطساس، واسقوا القوم واسقوا الخيل ورشّفوها ترشيفا». ويبدأ هو بسقيهم، فيسقي علي بن الطعان المحاربي بيده الشريفة[4]. فكانت النتيجة أن علي بن الطعان المحاربي هذا يقذف الحسين عليه السلام بالحجارة التي كان يحملها بكمّه، وذلك لما سقط عليه السلام على الأرض، وكان مسجّـىً على التراب وقد أخذ منه العطش مأخذا عظيما.

صوم الوصال

أن صوم الوصال محرّم، وهو أن يوصل صوم اليوم بصوم يوم الغد دون إفطار. والغريب أنهم يروون روايات عجيبة في هذا النوع من الصوم، منها أن عبد اللّه‏ بن الزبير كان يصوم سبعة أيام ليلاً ونهارا، فاذا أفطر كان يشرب السمن كي تتفتّق أمعاؤه[5]. وأظن أن هذه الرواية اختُرعت أيام حكمه، وإلاّ فصيام سبعة أيام بلياليها بلا طعام ولا شراب، ومع ذلك يقوى الصائم معها على الحركة شيء غير ممكن، وحتى المضربون عن الطعام يتناولون بعض الغذاء والشراب[6].

فهذا النوع من الصوم محرّم، وإن كان يذهب إليه جماعة، كعبد اللّه‏ بن الزبير وآخرون[7]، ويقولون: إنه كان يصوم اليومين والثلاثة والستة. ولكن الذي عليه جمهور المسلمين أن صوم الوصال حرام[8].

نعم، هناك طبقة خاصّة ترى جواز امتداد الصوم إلى الفجر الثاني، وشُبهتهم في ذلك قوله تعالى: ((ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ ))، فيقولون: إن هذا الليل يجوز أن يستغرق الليل كلّه، باعتبار أن الليل غاية، وهي داخلة في المُغيّا. وهذا الرأي ينسب إلى الأئمة الثلاثة: مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، ولم يقل به الشافعي حسب ما نقله القرطبي عنهم في تفسير الآية الكريمة، لكن هذه شبهة. وهناك نصوص صريحة في تحريم صوم الوصال[9].

وقال جماعة من العارفين: إن اللّه‏ إنما حرّم صوم الوصال؛ لأن المسلمين كانوا في بدء الدعوة ضعفاء الإيمان، ولا يكلّف أحدهم بتكليف شاقّ؛ لأنه إن كلّف بذلك فقد يترك الدين ويبتعد عنه، فلما قوي دينهم، وتعمّق الإيمان في نفوسهم واصلوا الصوم وصحّ صومهم[10]. وهذه تشنّجات صوفية لا سبيل إلى الأخذ بها، إذ أن الواضح من الشريعة أن صوم الوصال محرّم. فللإنسان قابلية محدّدة خلقها اللّه‏، وهو أعرف بها، واللّه‏ لا يكلّف تكليفا فيه حرج أو عسر أو مشقّة: ((وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [11])). فاللّه‏ لا يكلّف بتكليف أكبر من الإمكانات[12].

فالباري تعالى أمرنا أن نجعل فترة الصيام فرصة لتجربة السيطرة على الغرائز، فمن يقدر على السيطرة على غرائزه يوما يستطعْ أن يسيطر يومين، ومن يقدر على اليومين يقدر على الشهر؛ وبالتالي يقدر أن يسيطر عليها العمر كلّه. فالإنسان يملك القابلية على السيطرة على الغرائز، واللّه‏ تعالى لما كلّفنا بذلك أراد منا أن نهيِّئ العقل للسيطرة على الغرائز ليتسنّى للإنسان السيطرة على غرائزه دوما، ويبقى هو أكبر من الغريزة لا أن تستبدّ به الغريزة. وإذا صار الإنسان أكبر من الغريزة كملت إنسانيّته.

يتبع…

_____________________

[1] شجرة طوبى 2: 303، السنن الكبرى النسائي 6: 383، شرح نهج البلاغة 17: 257، 269، 273 .

[2] ومنها:

   1 ـ صفحه عليه السلام عن عائشة وعن جيش البصرة، فبعد أن انتصر أرسلت عائشة إليه قائلة: يا أبا الحسن، فإذا ملكت فاصفح. فقال عليه السلام: «نعم أصفح وأعفو». ثم أمر عليه السلام أن يجهّزوا لها في رجوعها. انظر شجرة طوبى 2: 324.

   2 ـ قوله عليه السلام بعد دحر جيش البصرة: «لو كنت قاتل الأحبّة لقتلت من في هذه الحجرة». بعد أن قالت له صفيّة بنت الحرث الثقفيّة امرأة عبد اللّه‏ بن خلف الخزاعي: يا قاتل الأحبّة. انظر: دعائم الإسلام 1: 394، مناقب آل أبي طالب 2: 98، الجمل ضامر بن شدقم: 147، تاريخ الطبري 3: 543، شرح نهج البلاغة 15: 105.

   3 ـ ما مرّ قبل قليل من فسحه عليه السلام المجال أمام جيش معاوية إلى الماء بعد منع معاوية إياهم عنه.

   وكذلك فعل الحسين عليه السلام مع جيش الحرّ  رحمه الله  ودوابّهم لمّا جاء ليجعجع به. وسيأتي المحاضر على ذكره بعد قليل.

[3] مناقب آل أبي طالب 3: 184، باختلاف.

[4] انظر: الإرشاد 2: 78، تاريخ الطبري 4: 302، البداية والنهاية 8 : 186 .

[5] الجامع لأحكام القرآن 2: 329، كنز العمال 12: 471 / 37230 .

[6] ومنها بعض الحبوب المغذّية .

[7] الجامع لأحكام القرآن 2: 329، كنز العمال 12: 471 / 37230، وهم: إبراهيم التيمي وأبو الجوزءاء وأبو الحسن الدينوري وغيرهم .

[8] انظر: تحفة الفقهاء السمرقندي 1: 344، بدائع الصنائع 2: 79، حاشية ردّ المحتار 2: 449، عون المعبود 9: 9، مسند أبي حنيفة: 192، وغيرها كثير .

[9] كما مرّ .

[10] انظر الجامع لأحكام القرآن 2: 330 .

[11] الحجّ: 78 .

[12] قال تعالى: لاَ تُكلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا. البقرة: 233 . وقال: لاَ يُكلِّفُ اللَّهُ نَفْسا إِلاَّ وُسْعَهَا البقرة: 286 . وقال: لاَ نُكلِّفُ نَفْسا إِلاَّ وُسْعَهَا الأنعام: 152، الأعراف: 42، المؤمنون: 62 .

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة