كشكول الوائلي _ 52

ابراهيم المغني
تقول الآية: ((وَإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ))، أذكر بالمناسبة أن إبراهيم بن شَكلة ـ ابن المهدي، وهو أخو الرشيد ـ كان مغنّيا معروفا، يعيش في بيئة معروفة من الخمرة والجواري والمفاسد، فلمّا بايعوا الإمام الرضا عليه السلام بولاية العهد حدث انقلاب في بغداد؛ إذ كان هناك جماعة أرادوا ألاّ يُخرجوا الخلافة من البيت العباسي، فجاؤوا بإبراهيم هذا باعتباره من الاُسرة الحاكمة فبايعوه واعتبروه خليفة، فوقف له دعبل بن عليّ الخزاعي الشاعر الرساليّ الذي وظّف فكره وقافيته لنصرة الحقّ ودحض الباطل، وقف بأكثر من قصيدة وقصيدة فجعله مهزلة من المهازل.
فلما دخل المأمون واستعاد السلطة، هرب إبراهيم واختفى عن الأنظار، فقيل له: اذهب إلى ابن أخيك وألقِ بنفسك عليه؛ عسى أن يرأف بك. فجاء ودخل المجلس، فصفح عنه المأمون.
وفي يوم من الأيّام دخل على المأمون ـ وكان إبراهيم هذا حاقدا بشكل عجيب على الإمام الرضا عليه السلام وذرّيّته، حتى وُجد في وصيّته: «إن أموالي توزّع على جميع أولاد الصحابة إلاّ أولاد علي»[1] ـ نعم، دخل على المأمون فقال له:
اُريد أن أقول لك شيئا. قال: قل. قال: أنتم تقولون: إن عليا سيد الفصحاء والبلغاء. قال: نعم هو كذلك. قال: لقد رأيته في المنام فحاولت أن اُحاجّه، فكلّما حاولت ذلك فإنه لم يجبني إلاّ بقوله: سلاما. فقال المأمون: واللّه لقد أجابك بأبلغ الجواب. قال: كيف؟ قال: أما تقرأ قوله تعالى: ((وَإذَا خَاطَبَهُمْ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاما [2]))، فهذا أبلغ جواب[3]، فقد اعتبرك تافها لا تستحقّ أن يجيبك.
لنا ديننا ولكم دينكم
فنحن لنا دين وأنتم لكم دين، وقد أدّبنا اللّه ألاّ نشتم حتى الصنم؛ لأن بعض الناس أشبه بالصنم وهو يعبد الصنم، فإن شتمته شتمك. فالقرآن الكريم يقول: لا تجعلوا لمثل هؤلاء حجّة عليكم وطريقا لشتمكم، فإن شتمت إلهه فإلهه مجرّد خشبة أو حجر لا يضرّ ولا ينفع، لكنه سوف يشتم اللّه رب العالمين. قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله يوما لأصحابه: «من الكبائر شتم الرجل منكم والديه». فقالوا: أويشتم الرجل أباه؟ قال صلى الله عليه وآله : «نعم، يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه»[4].
فعندما يريد الإنسان أن يشتم فعليه أن يأخذ بعين الاعتبار أن هذا الشتم هل يأتي بنتيجة أم لا؟ ثم إننا نعرف عبر التاريخ وعبر الرسالات أن العقيدة إذا تعرّضت للشتم ترسّخت أكثر وأكثر، وهي أشبه شيء بالمسمار كما يقول أحد المفكرين الأجانب، فكلما زدت في ضربه ازداد ثباتا ورسوخا في الحائط. فالفكر هو الذي يصارع الفكر أما الشتم فلا يأتي إلاّ بالنتائج العكسيّة. فالقرآن يريد الطريق الأمثل، فيقول: إن لنا دينا وأنتم لكم دين، فكما أننا نحترم دينكم فأنتم عليكم أن تحترموا ديننا وعقيدتنا. وهذه هي اُسس التعايش الحضاري، وهي اُسس سليمة.
وهناك نقطة مهمة اُخرى، وهي أننا عندما نريد أن ننتقد أحدا فينبغي ألاّ يكون هذا الشيء الذي ننتقده فيه عندنا، فإن كان موجودا عندنا فلمَ ننتقده إذن؟ فعندما نقول للأحدب: أنت أحدب، فينبغي ألاّ نكون مثله؛ لأنه سيقول حينئذ لنا: ولم لا تعيبون أنفسكم أنتم؟
ولقد رأيت أحد الكتاب يحمل حملة شديدة علينا فيقول: إن الشيعة عندهم نمط من الغلوّ بأيمّتهم لا حدود له، فهم يقولون: إن علي بن أبي طالب كان إلى جنب رسول اللّه صلى الله عليه وآله في غار حراء لمّا نزل عليه الوحي[5]، وسمعه. وكأن هذا الكاتب لم يقرأ ما يروونه عند قوله تعالي: ((ثُمَّ دَنَا فَـتَدَلَّي * فَكانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَى [6])) من أن النبي صلى الله عليه وآله لما وصل إلى هذا المكان أصابته وحشة، وفي هذه الأثناء سمع صوت الخليفة أبي بكر[7]. وهذا ما يرويه الكثير من المفسّرين كالرازي والقرطبي. فلمَ تكون هذه المنقبة لأبي بكر حلالاً ولعلي عليه السلام حراما؟
فالآية على هذا الرأي أن لنا عقيدتنا وديننا ولكم عقيدتكم ودينكم، فإن أردنا التعايش الحضاري فعلينا أن يحترم بعضنا دين الآخر.
ثم إن هذه الاُمور ينبغي ألاّ تطرح بين العوامّ، فهذا الكاسب الذي يذهب منذ الصباح لعمله لا وقت عنده للقضايا الفكريّة، فيجب أن تكون هذه القضايا الفكريّة بين العلماء، تتصارع فيها أفكارهم ونظريّاتهم . والقرآن الكريم أعطانا قاعدة
مرنة هي: ((لا يُكلِّفُ اللّهُ نَفْسا إلا وُسْعَهَا [8]))، فما يكلّف به العلماء لا يكلّف به الجهّال.
يتبع…
__________________________
[1] نزهة الجليس 2: 404 .
[2] الفرقان: 63 .
[3] بحار الأنوار 39: 86 ـ 87 ، الجامع لأحكام القرآن 13: 71، وهو ما يدلّ على جهل إبراهيم هذا ـ وهو المنغمس في بيئة الخمرة والجواري والمفاسد ـ بكتاب اللّه .
[4] مسند أحمد 2: 164، صحيح مسلم 1: 65، الجامع الصحيح 3: 208 .
[5] بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ}. العلق: 1.
[6] النجم: 8 ـ 9 .
[7] لم نعثر عليه، لكن رووا أن ابن عباس رأى جبريل وسمعه. سير أعلام النبلاء 3: 339 .
[8] البقرة: 286 .