كشكول الوائلي _ 51

البيوت الخالية
فالآية تقول: ((إنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كانُوا خَاطِئِينَ ))؛ لأنهم كانوا يتصوّرون أنهم سيسلمون بذبح الناس، وهم جاؤوا ليحكموا الناس، فلو ذبحوهم فمن يحكمون؟ ولكن اللّه لمّا أراد شيئا هيّأ أسبابه، وكان ذلك سببا لنجاة نبيه موسى عليه السلام . والذي حصل أن فرعون لما جيء إليه بالطفل أراد أن يقتله، فقالت له زوجته: إن هذا الطفل يبدو أن عمره أكثر من سنة، وقد صدر أمرك بذبح الأطفال من سنة، ثم إننا لا ولد لنا فدعنا نربّيه يكن قرّة عين لنا نأنس به. فأقنعته ثم جاؤوا به، فراحوا يبحثون له عن مرضعة فلم يجدوا له، وكان يأبى كلّ مرضعة، وكانت اُخته تتابع أمره بأمر اُمّها، فقالت لهم: أنا أدلّكم على من يرضعه ويكفله. فقال أحد جلساء فرعون: كيف عرفت؟ لا بد أنك تعرفين البيت الذي خرج منه. فقالت: لا، وإنما أنا أعرف أهل بيت مخلصين لفرعون، وأفضّل أن هؤلاء هم الذين يتكفّلون بتربيته.
فضحك فرعون واستصوب رأيها. وفعلاً أتت باُمّه، فلمّا عرضوه على اُمّه التقم ثديها، فكان يقال لها: لمَ يأبى المراضع إلاّ إيّاك؟ فكانت تقول: إني طاهرة وريحي طيب، وكلّ طفل أحتضنه يقبل على ثديي.
إن الصورة التي يرسمها لنا القرآن عن اُمّ موسى صورة محزنة: ((وَأصْبَحَ فُؤَادُ اُمِّ مُوسَى فَارِغا [1])) وهي صورة معبّرة، فهذه المرأة عندما ألقت طفلها في البحر أخذت تتابعه حتى بعد عن عينيها، فأصبح فؤادها فارغا كما يصفه القرآن، فالطفل يملأ قلب الاُمّ عنفوانا ورحمة ومودّة وحبّا، فلما ألقته في البحر أصبح فؤادها فارغا. وقد كانت حقا مأساة عظيمة.
فالآية تقرّر خطأ هؤلاء في تصوّرهم أنهم سوف يقتلون الناس ويتركون بيوتهم خالية، فيسلمون من الموت والقتل، وأن اللّه جعل حتفهم فيما أرادوا.
كيف نردّ على من يتوجّه إلينا بالسباب؟
فالآية نزلت في هذا الجوّ المحموم بالكلام والتراشق، تقول الآية: ((وَإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ ))، واللغو هنا هو كلّ ما يُكره من القول ويُتفاحَش من الكلام، كاللفظة النابية التي تؤذي الآخرين. فلماذا عبر القرآن عن هذا الكلام بأنه لغو؟ نحن نعرف أن أحد معاني اللغو هو الكلام الذي لا فائدة منه، فلماذا يعبر القرآن عن هذا اللون من الكلام بأنه لغو ولا معنى له؟ الجواب هو أن الكلام لا بد أن يكون له مردود، فإذا لم يكن له مردود صار لغوا، والشتم لا مردود له أبدا، بل بالعكس، يكون له مردود عكسي. فالإنسان عنده طاقة كامنة فإن فرّغها بالشتائم ذهبت هذه الطاقة، ولا نتيجة من وراء الشتائم، لكنها إذا بقيت مخزونة فيمكن توظيفها
في يوم من الأيام لهدف كبير.
ثم إن الشتم يجعل من المجتمع مجتمع سباب، ومن ناحية اُخرى يكون أحيانا تعدّيا إذا كان بلا موجب؛ لأن عِرض المؤمن وكرامته كبيرة جدا بحيث إن الدنيا لا تعادل الإنسان المؤمن. فهؤلاء كانوا يعرضون عن اللغو لأنه لا جدوى من ورائه، والإنسان المحترم يرتفع بلسانه عن اللغو. وقد كان الاحنف بن قيس صاحب قبيلة من مئة ألف شخص، وكان إذا قال لهم: تقدّموا. تقدّموا لأي عمل ولو كان فيه الموت، ولا يسألونه عن السبب، فشتمه أحد الناس يوما وراح يسمعه ألفاظا نابية، فلم يلتفت إليه الأحنف، فقال للأحنف: أأنت حجر؟ إياك أعني. فقال له الأحنف: وعنك اُعرض.
وهذا من الخلق الرفيع، خصوصا إذا كان التوازن مفقودا بين الشاتم والمشتوم، فمثلاً صعد مروان المنبر في المدينة فراح يشتم الإمام عليا عليه السلام بحضور الإمام الحسن عليه السلام ، فلم يجبه الإمام الحسن عليه السلام أبدا. وحتى الإمام علي عليه السلام لو كان موجودا لما ردّ عليه، فمن هو مروان حتى يردّ عليه؟ وهل يكون الإمام علي عليه السلام طرفا مع هذا؟ يقول الشاعر:
بلاء ليس يشبهه بلاءُ *** عداوة غير ذي حسب ودينِ
يبيحك منه عِرضا لم يصنه *** ويرتع منك في عِرض مصونِ[2]
فمن غير الممكن أن يكون علي عليه السلام طرفا مع مروان، فإن اعتدى حيوان فلا يقابل بالمثل. والقرآن يريد الارتفاع بمستوى الفرد المسلم إلى مستوى أخلاقي محترم، فلا يقابل اللغو بالمثل؛ لأن مقابلة اللغو بالمثل تهبط بالانسان عن مستواه، بل بالعكس، فمع كثرة من شتموا الإمام عليا عليه السلام لم ينزلوا من قدره[3]؛ لأنه لم يرد ولم يُجب مع أنه كان يسمع الشتم باُذنيه ولا يرتّب على ذلك شيئا من الأثر.
كان أحدهم يناديه وهو يخطب على منبر الكوفة: «للّه أبوك، ما أفصحك كاذبا». وإلى جانبه من يناديه: «أشهد أنك أنت اللّه»[4] والعياذ باللّه. فلم يكن الإمام علي عليه السلام يرتّب أثرا على شتم هذا، لكنه ينهى ذلك المغالي، حتى إنه أحرق المغالين بالنار[5].
فهدف الآية ألاّ ينزل المسلم إلى مستوى اللغو، فإن نزوله لا يليق بكرامة الإنسان أبدا. ومن هنا نلاحظ أن الإسلام لا زال يُشتَم، لكن قادة الإسلام لم يشتموا من شتَمهم، فلو اطّلعت على الفكر الأورپي لرأيت أنه يعتبر المسلمين من سقط المتاع، يقول أحدهم: كلّ الشعوب كلاب عدا إسرائيل، هذا هو الغرب المسيحي. ولا ننسَ صيحات الكرادلة والبابوات التي انتهت إلى الحروب الصليبية، والشتم المروّع الذي كان يشتم به الإسلام بأنه هجمة بدوية خرجت من قلب الصحراء وأحرقت الحضارة. بل حتى قادة الفكر الأورپي إذا جاؤوا على ذكر الإسلام فإنهم يشبعونه شتما.
وماركس حينما ينقد فلسفة هيگل يعبر عن الإسلام بأنه «صرخة الألم المكبوت» عند الفرد، وهو أفيون الشعوب. ومعنى «صرخة الألم المكبوت» أن الإنسان الذي سحقته النظم يخلق في داخله شيئا يسميه (اللّه)، ويتصوّر أن هذا سيخلّصه، فهو بذلك يخدّر نفسه، فهو مثل شارب الأفيون. وهذا من الكلام الهراء الذي لا يستحقّ الردّ؛ فإنّك لو سألته: من خلق هذا العالم الذي تعيش فيه أنت؟ وهل ولد هذا النظام الدقيق المتناهي في الدقّة من فراغ؟ فلو أمسكت بنبتة بسيطة وشرّحتها ودرستها لعرفت أن من ورائها قدرة لا حدّ لها. يقول «ميتز» المتخصّص بدراسة الغدد: «إن غدّة من الغدد بحجم الحِمَّصة لو أردنا أن نبدلها بمعمل فإننا نحتاج إلى مساحة تعادل المدينة التي نعيش فيها». فهل حصلت هذه صدفة ودون تخطيط؟ كلّ شيء يدلّ بإبداعه على وجود اللّه عز وجل.
إن كلام ماركس وأمثاله هراء لا يستحقّ الردّ، ولكن أردت هنا أن أبيّن لك مقدار الحقد على الإسلام، ومع ذلك فالإسلام لم يردّ عليهم. تعال إلى القرآن الذي هو مصدر حضارتنا تجده يقول: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا اُنزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكتِهِ وَكتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [6]))، فكم هو الفرق بين هذا الخُلق وبين من يقول: إن محمدا جالس متمدّد مترهّل يأكل من أموال السلب والنهب؟ وهذا ليس شتما نظيفا يستحقّ المقابلة، فهناك من يأتيك بدليل علمي فيمكنك أن تقول له: إن دليلك هذا خطأ وتناقشه، أمّا إذا كان لا يملك غير السباب؛ فهذا كافر وذاك مشرك، فماذا تصنع معه؟ وكلّ دليله الواهي حول هذا الكفر المزعوم أن هذا يأكل طعام الحسين عليه السلام يوم العاشر، فلو أكل طعام مروان لصار مؤمنا.
وأنا اُريد أن اُلفت النظر فقط، فإني أرى بعض الشباب يتحمّس ويتألّم من بعض الشعارات، فأدعوهم إلى عدم التأثّر وعدم ترتيب الأثر؛ لأننا نعرف مصادر هذه الشعارات ومن يقف وراءها. فعلينا ألاّ نحقّق غرض من يحاول شقّ وحدة المسلمين، وأن نكون واعين، وأن نعرف مصادر هذا اللغو. وعلى الإنسان أن يتّبع ما أنزل اللّه، ويجتهد قدر الإمكان ألاّ يتعدّى ما رسمته له الشريعة، ثم لا عليه إن نقده من ينقده.
يتبع…
_________________
[1] القصص: 10 .
[2] البيتان لعلي بن الجهم، الغدير 3: 302، طبقات الشعراء: 392، الأغاني 12: 102، جمهرة الأمثال 2: 55 .
[3] قال الرياشي: انتقص ابن حمزة بن عبد الله بن الزبير عليا عليه السلام فقال له أبوه: يا بني، إنه والله ما بنت الدنيا شيئا إلاّ هدمه الدين، وما بنى الدين شيئا فهدمته الدنيا، أما ترى عليا وما يُظهر بعض الناس من بغضه ولعنه على المنابر فكأنما والله يأخذون بناصيته رفعا إلى السماء، وما ترى بني مروان وما يندبون به موتاهم من المدح بين الناس فكأنما يكشفون عن الجيف؟ جواهر المطالب ابن الدمشقي 2: 229 . وقريب منه ما في المحاسن والمساوئ: 40، البيان والتبيين 2: 173 .
[4] بحار الأنوار 52: 285، 287 .
[5] المصدر نفسه .
[6] البقرة: 285 .