كشكول الوائلي _ 46

img

حقيقة مصحف فاطمة عليها السلام

وهذا ما فعله الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، فهو لم يخرج من بيته بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله حتى أكمل كتابة القرآن وكتب تحته شروحا؛ لأنه عليه السلام كان يكتب الآيات التي تنزل على رسول اللّه‏ صلى الله عليه وآله ثم يسأله صلى الله عليه وآله عن معانيها فيشرح له النبي صلى الله عليه وآله ذلك، فيكتبه الإمام عليه السلام . فهذه الشروح هي التي كتبها عليه السلام مع القرآن، وهذا هو قرآن فاطمة الذي يهرّجون به علينا. فهؤلاء لا يبحثون عن الحقيقة، وإنما عندهم رسالة في تفريق المسلمين، بل ويأخذون عليها أجرا[1].

فالقرآن هو مابين الدفّتين، وهو قرآن المسلمين، وكان الإمام علي عليه السلام يقرأ القرآن مع شروحه لفاطمة يسلّيها به بعد وفاة والدها صلى الله عليه وآله ، فيشرح لها المعاني وشروح الأحكام والعقائد. فهذا هو مصحف فاطمة عليها السلام . يقول الإمام الصادق عليه السلام : «مافيه من قرآنكم حرف واحد»[2] أي ليس فيه من النصّ وإنما الشرح حيث إن النصّ كان على حِدة والشرح على حِدة.

 

التربة

فالحسين عليه السلام اُخبر سلفا بأن كربلا ستكون محلاًّ لشهادته وشهادة أهل بيته، وأن اللّه‏ قد اختار هذه التربة الطاهرة لهذا الجسد الطاهر؛ لأن اللّه‏ يختار لأوليائه البقاع الطاهرة. ونحن لهذا وغيره نحرص على أن نأخذ شيئا من تربة هذه الأرض الطاهرة؛ لأن لها مكانه‏عند الله، وهي إضافة إلى ذلك جزء من الأرض صالح للسجود؛ باعتبار ما يعمّ الكلّ يعمّ الجزء. والغريب أنه إلى الآن نقرأ اعتراضات على هذا كما في مقالة لاستاذ في جامعة معاصرة يقول فيه: «غريب أمر هؤلاء الشيعة، فعندهم الصلاة لا تصحّ إلاّ أن يضعوا رؤوسهم على حجر». هؤلاء كيف يحملون شهادة دكتوراه؟ وإلاّ أليست الأرض حجرا؟ إني لم اُقدس هذا الحجر وإنما اللّه‏ أمرني بأن تكون جبهتي على الأرض، وهذه جزء من الأرض.

بل توجد هناك معانٍ وراء النصّ؛ حيث إن هذه التربة طاهرة بارك اللّه‏ فيها، ونحن نتذكر مجنون ليلى حيث مرّوا عليه في المنطقة التي كانت تسكن فيها ليلى، وكان يأخذ من تراب المنطقة ويقبّله، فقالوا له: هذا عيب. فقال:

لا تقل دارُها بشرقيّ نجدٍ *** كلّ نجد للعامريّة دارُ

فلها منزل بكلّ مكانٍ *** ولها كلّ ومضة آثارُ

على أيّة حال فأنا لا اُقدّس الحجر، وإنما أعرف أن هذا المكان قد سُطرت عليه أروع طرق التضيحة، فأعتزّ به ميدانيّا. فالكعبة المشرّفة حجر، ولكننا نقدّسها ونقبّلها ونقصدها من مئات الآلاف من الكيلومترات؛ لأن اللّه‏ أمر بتقديسها، ولأنها موطن الدعوة الإسلامية، ومنها ارتفع صوت بلال للأذان داعيا الاُمّة إلى «لا إله إلاّ اللّه‏».

فهذا المكان (كربلاء) أعتبره مثالاً للشهادة ووعاءً مثّلت فيه أروع ملاحم التضحية، وهو جزء من الأرض فلا ينبغي الاعتراض على الحكم بجعلها موضعا للسجود. نروي لك هذه الرواية، الملك صلاح الدين اُهديت له هدايا، ومن جملة الهدايا اُخرج له مروحة، فقيل: هذه هديّة لم يرَها الملك ولم يرَ آباؤه مثلها، ولا أشرف منها. فقال صلاح الدين: ايت بها. فرأى فيها بيتين:

أنا من نخلة تجاور قبرا *** ساد من فيه جملة الناس طرّا

شملتني عناية القبر حتى *** صرت في راحة ابن أيّوب أمرا

فقال: هذه من نخلة مجاورة لقبر النبي صلى الله عليه وآله ، ووقع عليها يلثمها ويقبّلها؛ لأنها قريبة من قبر النبي صلى الله عليه وآله .

فالحسين هو ابن رسول اللّه‏ صلى الله عليه وآله ، وفيه قال: «حسين مني وأنا من حسين»[3]،
فهذا دم رسول اللّه‏ ولحم رسول اللّه‏ وهؤلاء أولاد رسول اللّه‏ صلى الله عليه وآله الذين صرّعوا، فهذه تربة مقدّسة طاهرة، وأنا عندي حرص وولاء، وإلاّ فإني أستطيع أن أسجد على ورقة أو على سعفة أو على عشبة أو على كلّ ما يصحّ السجود عليه. فلماذا أنت تأخذ برواية عبد الملك بن مروان بأنه يصحّ السجود على السجّاد وتعتبر روايتك هذه محترمة، وعندما آخذ برواية عن الحسن أو الحسين عليهما السلام بأنه لا يصحّ السجود إلاّ على الأرض تعدّ روايتي غير محترمة؟

والجواب أنه لا توجد لدينا موضوعيّة في الطرح والنقاش، مع أن الواجب يحتّم علينا أن نرجع للدليل بموضوعيّة، وألاّ نحمل أفعال المسلمين على العبث والعاطفة، فيجب أن أحملها على الصحّة، وأرى دليله واُناقشه. والمسلمون كانوا يأخذون خرائط[4] يضعون فيها جزءا من تراب المدينة، فإذا ذهبوا للسفر سجدوا عليه؛ لأن تراب المدينة طاهر ومن الأرض؛ فيصحّ السجود عليه.

فالحسين عليه السلام يعلم أنه سيدفن في هذه الأرض، وهو عليه السلام استجاب للإرهاصات التي بُلِّغ بها، فلما قيل له: كربلا، قال: «انزلوا، فهاهنا محطّ رحالنا»[5]. فاختياره عليه السلام لها وتخييمه بها كان استجابة لما قال له جده رسول الله صلى الله عليه وآله من أن مصرعه ومصرع أصحابه سيكون فيها.

وهناك رواية تقول بأن الحسين عليه السلام قد اشترى الأرض أربعة أميال في أربعة أميال، واشترط على أهلها أن يرشدوا زوّاره إلى قبره ويضيّفوهم ثلاثة أيام[6]. وتوجد رواية اُخرى تقول: إن الحسين عليه السلام اشتراها بستّين ألف درهم، وتصدّق بها
على أهلها بشرط أن يرشدوا زوّاره وأن يستقبلوهم. وهكذا جعلها عليه السلام وعاء للشهادة، ومثّل عليها أروع طرق التضحية؛ ولذلك تلعب كربلاء دورا هامّا في مشاعر المسلمين، فإنه لا يوجد مسلم لا ينشد لكربلاء وما جرى فيها للحسين وأهل بيته وأصحابه.

ستبقى كربلا في وجدان كل من قال: «لا إله إلاّ اللّه‏»؛ لأن الحسين عليه السلام على هذا التراب أعاد تجسيد الإسلام، فإنّ الاُمويين يصعدون على المنبر ويقولون:

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسلْ

ويأتي الحسين عليه السلام ليجسّد كلمة «لا إله إلاّ اللّه‏» على هذه التربة، كان عليه السلام يريد إعادة معالم الإسلام الذي أوشك أن يندثر على أيدي هؤلاء، وأعطى قباله ثمنا غاليا. فأصبحت كربلاء في مشاعر كلّ من يرتبط بآل رسول اللّه‏ صلى الله عليه وآله ، وستبقى ماثلة أمام أعيننا؛ لأنها تعيد لنا الأيام والليالي التي عاشها الحسين عليه السلام على هذه التربة هو وأهل بيته.

يتبع…

___________________________

[1] عن قيس بن عباد قال: قرأت على علي ـ يريد: ابن أبي طالب عليه السلام ـ وطلح منضود ،فقال علي: «ما بال الطلح؟ أما تقرأ وطلع؟». قال: «وطلع نضيد». فقيل له: يا أمير المؤنين، أنحكها من المصحف؟ فقال: «لا يهاج القرآن اليوم».

انظر: التبيان 9: 495، جامع البيان، المجلد: 13، ج27: 234، كنز العمّال 2: 519 / 4648.

[2] بصائر الدرجات: 172 / 3 .

[3] المستدرك على الصحيحين 3: 177، المصنف ابن أبي شيبة 7: 515 .

[4] الخريطة: وعاء من أدم أو قماش تشرج على ما فيها. مختار الصحاح: 98 ـ خرط.

[5] اللهوف في قتلى الطفوف: 49، تفسير نور الثقلين 4: 221 .

[6] مستدرك وسائل الشيعة 10: 321 / 1209، مستدرك سفينة البحار 8 : 387 .

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة